كرم العطاء وجدل السياسة .. د. أحمد يوسف

الأحد 11 يونيو 2017 12:54 م / بتوقيت القدس +2GMT
كرم العطاء وجدل السياسة .. د. أحمد يوسف



اتفقنا أو اختلفنا مع قطر، فهذا هو حال السياسة، ولكن أياديها الممدودة بالعطاء لنا كفلسطينيين فتلك قصة أخرى، سنتناولها بشيء من التفصيل.

تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب والمسلمين، وتحاول كل دول الأطراف الذكية بالمنطقة والطامحة لأدوار إقليمية ودولية أن يكون لها دور فعَّال ومؤثر في المسارات المتعددة لهذه القضية.. من هنا، كانت قطر تاريخياً مع القضية الفلسطينية، فمنذ أواخر الخمسينيات كانت الدوحة مع الكويت هي الحاضنة للقاءات الأولى للعديد من الشخصيات الفلسطينية المقيمة في دول الخليج، والتي أدت التفاهمات بينها إلى تشكيل مجموعات نضالية باسم حركة فتح، انخرطت فيما بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كان يترأسها – آنذاك - المرحوم أحمد الشقيري، ثم في عام 1969 تولت حركة فتح قيادتها برئاسة الأخ ياسر عرفات (رحمه الله).

إن قطر ومنذ حصولها على الاستقلال في سبتمبر 1971، كانت من الدول التي تمَّ فيها افتتاح مكتب لمنظمة التحرير، والذي تحول إلى سفارة بعد إعلان قيام دولة فلسطين في مؤتمر الجزائر 1988.

وعندما عادت قيادة منظمة التحرير إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاقية أوسلو بالعاصمة الأمريكية واشنطن في سبتمبر 1993، وإنشاء السلطة الوطنية في عام 1994، قام أمير قطر السابق سمو الشيخ حمد بزيارة الأراضي الفلسطينية في عام 1999، والتقى في غزة بالرئيس ياسر عرفات.

في ضوء ذلك، ونظراً لحملات التشهير والتشويه والتحريض التي تتعرض لها علاقاتنا بدولة قطر، وجدت أنه من اللازم كمتابع لمسارات هذه العلاقة وكشاهد على الكثير من وقائعها أن أُلقي بقلمي لتظهير بعض تلك المشاهدات، والتي كنت بحكم منصبي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء ثم وكيل لوزارة الخارجية مطلعاً على الكثير من تفاصيلها.

في الحقيقة، إن هناك داخل منطقتنا العربية والإسلامية من يعمل على الإساءة لقطر وشخص أميرها، ويقوم بتوجيه الاتهامات والتشكيك بكل دوافعها، ويتعمد تفريغ مواقفها - بما فيها من نبل وشهامة - من عناصر الخير التي تحملها، والطعن بكل ما تقدمه من مساعدات إغاثية وإنسانية لشعبنا الفلسطيني، وما تجود به دبلوماسيتها النشطة من تحركات فاعلة ومواقف سياسية داعمة لقضيتنا، بصورة لا تُنكرها إلا عين حاسد وحقود.

هذه السطور هي اعتراف منَّا كفلسطينيين بما لقطر وأميرها من فضل على شعبنا وقضيتنا، وأننا لن ننسى لذوي الفضل فضلهم.. وللذين يتعمدون التشكيك بدوافع المساعدات القطرية لغزة، ويحاولون – دائماً - تصنيفها في دائرة العمل لاحتواء حركة حماس، نرد عليهم بالقول: إن قطر قدَّمت نصف مليار دولار لجهود إعادة الاعمار في لبنان بعد الحرب العدوانية عليه في صيف 2006، ولم نسمع بأن الهدف كان هو احتواء قطر لحزب الله والحكومة اللبنانية، وأيضاً قامت قطر بتقديم مساعدات وقروض بمليارات الدولارات لدول الربيع العربي، فلم تبخل على أحد، ولم نسمع بأنها قامت بفرض شروطٍ مقابل تلك الهبات والعطايا المالية. لذلك، فليس أمامنا من ردٍّ على من يحاولون وضع علاقتنا بقطر في دائرة "التشكيك والاتهام" إلا أن نُذّكرهم بما تعلمناه من خُلق وأدب، وهو أن نشكر الناس وأن نقول لهم حُسناً.

إن ما يتوجب التنويه إليه هنا؛ هو أن الحديث عن قطر والإشادة بمواقفها تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة لا ينفِّ اعترافنا بدور الدول الشقيقة والصديقة في دعم القضية الفلسطينية وتعزيز صمود أهلها، فهناك من بذل الدماء وهناك من قدَّم المال وهناك من جاد بهما معاً.. لقد سجلت العديد من الدول مواقف أصيلة في دعم غزة والوقوف إلى جانبنا، تحدياً للاحتلال وكسراً للحصار، وليس أقلها تلك الدماء الزكية التي سالت بغزارة في عرض البحر على سطح سفينة مرمرة التركية، والتي تصدرت قافلة أسطول الحرية.. كما أننا لن ننسى الدماء الطاهرة لشهداء أمتنا العربية، والتي امتزجت بدماء شهدائنا عبر الحروب والمواجهات المتكررة مع العدو الصهيوني.

 إننا هنا سنركز على دولة قطر؛ لأننا نرى أنها تستحق تظهير خيرها العميم وزيادة؛ ولأن البعض يريد الإساءة إليها وطمس فضائلها، وأن هناك – للأسف - من يريد تشويه العلاقة التاريخية بيننا، ويضعها في سياق المناورة والابتزاز والمصالح ليس إلا...!!

السياسة القطرية تجاه القضية الفلسطينية

لقد بقيت القضية الفلسطينية حاضرةً بقوة في السياسة القطرية، قد يستغرب البعض مواقف قطر المؤيدة والمؤازرة للفلسطينيين، ويعتقد أنها فقط وليدة السنوات الأخيرة، أو أنها جاءت بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في يناير 2006، وهذا ظلم تاريخي لهذا البلد الكبير بمواقفه وأفعاله، ويمكننا إدراك ذلك بالعودةإلى ما تحدث به أمير قطر عام 1974، حيث قال: "المهم هو القضية الفلسطينية، إنها قضيتنا مثلما هي قضية الفلسطينيين، إنها محور سياستنا وعلاقتنا مع الدول، ونحن عندما نضع ميزانية التنمية نحسب أولاً حساب التزاماتنا بشأن القضية الفلسطينية". وحتى في القمة العربية التي انعقدت في العاصمة القطريةالدوحةعام 2013، أعاد رئيس الوزراء ووزير الخارجية – آنذاك - الشيخ حمد بن جاسم التأكيد على سياسة بلاده الراسخة تجاه فلسطين، بالقول: "إن القضية الفلسطينية كانت وستبقى قضيتنا المركزية، حتى يتوفر لها الحل العادل والدائم والشامل الذي يحقق للشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة؛ وفي مقدمتها الحق في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف".

وإذا قمنا بجولة في السياسة القطرية ومواقف أميرها السابق الشيخ حمد على مدار أكثر من عشرِ سنوات، فسنجد تطوراً في العلاقة وتميزاً في العطاء وتظهيراً لمواقف لا يمكن أن تغيب عنعين المشاهد داخل ساحتنا الفلسطينية.. ولنبدأ بالانتفاضة الفلسطينية عام 2000، حيث وقفت قطر إلى جانب الشعب الفلسطيني خلال أحداثها، واستنكرت حكومتها الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وقد قامت قطر بتقديم دعم مالي للسلطة، كما أن وزير خارجيتها لعب دوراً مهماً - وراء الكواليس - في فك الحصار عن مقر الرئيس ياسر عرفات برام الله، خلال عملية الدرع الواقي في ربيع 2002، وأيضاً خلال حشد مواقف الدول لصالح دعم مطلب السلطة بالتوجه للأمم المتحدة في سبتمبر 2012، وقد رحبت قطر بما وصفته القرار التاريخي الذي اتخذته الجمعية العامة برفع مكانة فلسطين بالأمم المتحدة إلى دولة بصفة مراقب غير عضو؛ باعتباره خطوة هامة على طريق استعادة الحقوق الفلسطينية.

وقد لعبت قطر دوراً هاماً في وقف الحرب على غزة عام 2012، من خلال الاتصالات مع قادة الدول من أجل وقف العدوان على غزة.

وإذا تابعنا المواقف القطرية كلها من حيث تقديم المساعدات المباشرة للقضية أو عبر صناديق الدعم العربية في الجامعة، فإننا سنجد بأن قطر كانت تتقدم دائماً خطوة على كل الصف العربي.

شكراً لقطر.. عطايا لدعم صمود شعبنا

في أكتوبر 2012، جاءت المنحة القطرية للشعب الفلسطيني تعبيراً عن أول توجه عربي حقيقي لكسر الحصار عن قطاع غزة، وهي كانت تحمل الكثير من المعاني والمؤشرات الإيجابية، ولعل أوضحها هو أن عمقنا العربي والإسلامي ما يزال يختزن الكثير من الخير، وأن فلسطين ومعاناة أهلها جراء الحصار وأفعال الاحتلال الإسرائيلي لم تغب عن ضمير أمتنا، وهي التي لم تبخل طوال مراحل الصراع عن تقديم كل الدعم والعون للمقاومة الفلسطينية والمؤسسات التعليمية والصحية، وكانت اللجان الخيرية في العديد من البلدان العربية وخاصة الخليجية منها تعطي بلا حدود لتعزيز صمود أهلنا، والحفاظ على الكيانية الفلسطينية التي كانت إسرائيل تحاول العمل على طمسها منذ اليوم الأول لاحتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة.

قضيتنا عبر فضاء الجزيرة: التاريخ والشهادة

إننا لن ننسى لقطر ولفضائية الجزيرة فضل التسجيل اليومي للحدث الفلسطيني، والنقل المباشر والمكثف للمعاناة الفلسطينية، والتي جعلت قضية فلسطين هي القضية المركزية في دائرة الاهتمام العربي والإسلامي، وكذلك في تصدر قائمة الأحداث الأكثر مأساوية في المتابعة الإعلامية بالدول الغربية، وخاصة في أوساط الجاليات العربية والإسلامية هناك.

وخلال العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة،  كانت فضائية الجزيرة تتقدم الإعلام العربي والغربي في تغطياتها للعمليات العسكرية، وقد نجحت الفضائية بإمكانياتها المهنية وأطقمها الفنية وبسعة انتشارها الإقليمي والدولي في فضح ادعاءات وأكاذيب ماكينة الدعاية الصهيونية، وسجلت بالصوت والصورة مشاهد المجازر التي ارتكبها الطيران الإسرائيلي وجيش الاحتلال ضد المدنيين، والتي كانت أدلة دامغة اعتمدت على الكثير منها لجان تقصي الحقائق الدولية، ومنها "تقرير جولدستون" الذي أدان إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وكذلك باقتراف جرائم بحق الإنسانية وبانتهاك القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة.

حماس وسياسة الحياد الإيجابي

بالرغم من أن سياسة حركة حماس كانت واضحة طوال الوقت بأنها ترغب أن تحتفظ بمسافة واحدة من الجميع في عالمنا العربي والإسلامي، باعتبار أن فلسطين هي قضية الأمة المركزية، وأن هذا يفرض علينا أن نمنح الفرصة للجميع كي يبادروا بأخذ مكانتهم في دعم القضية ونُصرتها بالشكل الذي يُمليه عليهم واجبهم الديني وانتماؤهم العروبي وأمنهم القومي وتعهداتهم السياسية.

لقد كنا نعلم أن هناك حساسية شديدة في ساحتنا العربية وحتى الإسلامية تجاه أية مواقف أو خطوات قد نتخذها باتجاه التقارب أو التباعد مع هذا البلد أو ذاك، لذلك كانت سياسة حماس واضحة منذ البداية، وهي أن قلوبنا مفتوحة للجميع،وأننا لن نكون بأي حالٍ طرفاً في أية خلافات بين الأشقاء في المنطقة، وسنحرص على أن نحافظ على علاقات أخوية مع الجميع.

بيت القصيد، أن كل ما حرصنا عليه من مواقف متوازنة وإيجابية تجاه الجميع تم التنكر له؛ لأن السياسة في عالمنا العربي – للأسف - لا تخرج عن المفهوم التالي: إما أن تكون معنا أو علينا...!!

قطر في عين العاصفة.!!

من الملاحظ أن هناك حساسيات سياسية واضحة في المنطقة تجاه دولة قطر، حيث إن معظم دول الخليج تنهج سياسات تتطابق مواقفها – بشكل عام - مع المملكة العربية السعودية، والتي تشهد علاقاتها مع قطر في كثير من الأحيان حالة من التنافسية وتناقض الأدوار.

من هنا، فإن العلاقة المتميزة التي جمعت بين بعض قيادات حركة حماس، ربما كانت وراء وضع الحركة في دائرة الاستهداف لدى بعض الدول الخليجية.

 لم يكن أحد في حركة حماس أو الحكومة في غزة يتمنى أن يسود التوتر علاقاتها مع أي من دول المنطقة وخاصة الخليجية منها، أو حتى أن تظهر وكأن ميولها تتجه نحو هذا الطرف أكثر من الأطراف الأخرى، ولكن مواقف سمو الأمير القطري المتميزة، من حيث دعمه الكبير لاحتياجات الساحة الفلسطينية، ومواقفه السياسية الحريصة على جمع الكلمة ووحدة الصف الفلسطيني، وكذلك التحركات النشطة للخارجية القطرية لرفع الحصار عن قطاع غزة، ثم المبادرة الكريمة التي قام بها الشيخ حمد لتحقيق المصالحة الوطنية، وذلك بدعوة كل من الرئيس أبو مازن والأخ خالد مشعل للدوحة، وإقناع الطرفين بتوقيع اتفاق تفاهم لتشكيل حكومة انتقالية برئاسة الأخ أبو مازن، على أن يعقبها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تنهي الانقسام، وتؤدي إلى قيام حكومة شراكة سياسية بين جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي، وأيضاً الجهود التي بذلها الشيخ تميم لتحقيق المصالحة على الساحة الفلسطينية.

في ظل الصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فإن مثل هذه التحركات الكبيرة التي تقوم بها قطر تثير حفيظة بعض جيرانها الخليجيين أو بعض الدول المركزية في المنطقة، من هنا تصبح حماس في دائرة الاتهام وتوجه لها السهام؛ أحياناً بأنها تدور في فلك السياسة القطرية، وفي أحيان أخرى بأنها تتحرك في مربع التحالفات التي تشكل قطر أحد محاورها.

بالطبع، مهما حاولت حماس أن ترد عن نفسها عادية ما يلاحقها من اتهامات فلن تسعفها تصريحات قياداتها، والتي أظهرت في أكثر من لقاء متلفز أو عبر تصريحات رسمية أنها لا تخضع لأحد وأن سياستها واضحة، وهي الحفاظ على منظومتها القيمية، بأن المصالح لديها تحكمها المبادئ، وأن الشواهد على ذلك كثيرة، وأبرزها هو الموقف من الرئيس بشار الأسد والنظام في سوريا، حيث قررت قيادة الحركة مغادرة دمشق كتعبير عن رفضها لممارسات النظام ضد الشعب السوري، وتحمل كل ما يترتب على ذلك من تبعات على علاقاتها الاستراتيجية مع إيران وحزب الله.

ختاماً: الوفاء من مبادئنا

لقد لمسنا في قطر أميراً وحكومة وشعباً حسَّاً قومياً وشعوراً إنسانياً متميزاً تجاه فلسطين وأهلها، ولست مبالغاً إذا قلت إنها كانت للفلسطينيين بمثابة "نخوة المعتصم"، حيث كانت منذ الأيام الأولى، التي تمَّ فيه فرض الحصار الظالم على شعبنا، أول من بادر بتقديم الدعم المالي لإغاثة "عمورية" قطاع غزة، وكانت فضائية "الجزيرة"القطرية الأشهر في المجال الإعلامي الإقليمي والدولي، حيث كانت تعطي الأولوية في التغطية لكل ما يمنح القوة المعنوية والانتشار لشعبنا.

وعليه؛ فنحن مواقفنا ليست انحيازاً لأحد، ولكنها كلمة حق في مشهد وفاءٍ لمن سبقونا ببذل يد الخير والدعم والعطاء؛ مالياً وإعلامياً وسياسياً.

إن أخشى ما أخشاه فيما يجري في الخليج إنما هو رغبة بعض دوله في العودة إلى عهود "القابلية الاستعمارية"، وأن هذه المواجهة التي افتعلها البعض منهم مع قطر إنما هي دعوة مفتوحة لذلك.