بعد خمسين عاماً على حرب حزيران 1967: الحرب التي لم تكن حرباً ...حسين حجازي

السبت 03 يونيو 2017 10:05 ص / بتوقيت القدس +2GMT



كل شيء كان في مثل هذه الايام بل الساعات والاوقات ينذر بوقوع الحرب، وكما لو ان للحروب رائحة تشتمها الانوف وترسل اشعاعاتها كذبذبات غامضة، الى الاعماق الدفينة داخل البطون كذاك الصوت الذي ينبعث كحدس من هذه الاعماق الرخوة. لكن تراه اليوم بعد خمسين عاما في حياة البشر، الانسان العادي وحده. ما الذي يبقى من هذه الحرب في وعي صبي لم يتجاوز في ذلك الوقت الاثنى عشر عاما من العمر؟ ما الذي بقي اذن من الحرب؟.
ولعلها هي الحرب الاولى والاخيرة التي لا تحمل من الحرب الا اسمها، حتى وان ظلت اثارها الى اليوم تحمل جرحها غائرا عميقا في هذا الجزء الباطني العميق في النفس، وبات هذا الجرح جافا مع الوقت حيث الزمن هو الدواء حتى في حالة هذه القروح المزمنة في النفس ولكنه لم يدمل بعد.
هي حرب ويا للعجب ما كانت كالحروب التي تسبقها العام 1948 والعام 1956 ،هي حرب اسماها المنتصرون افتخارا وربما غرورا بحرب الايام الستة، حتى وان كان الصحيح عدد الايام خمسة ولكن ارادوا ان يسبغوا عليها هذه السداسية الدينية الرمزية من اضلاع النجمة السداسية. وما كانت لتشبه الحروب اللاحقة التي ولدت منها الحروب التي تنبأ بطلها موشي دايان، انها سوف تكون شيئا اّخر مختلف. وقد كانت نبوئته صحيحة ولذا جنح للسلام في اّواخر حياته.
هي حرب كان كل شيء يعد لها صور الدبابات المصرية، وهي تحرث رمال الصحراء في شبه جزيرة سيناء، وهي ماضية لملاقاة العدو على الحدود. التعبئة الخطابية والاناشيد والاغاني الحماسية عبر الاذاعات، وسحب جنود قوات الطوارئ الدولية عن خطوط التماس، كل شيء تم اعداده لمسرح الحرب، كما في الحروب التقليدية من القرون الوسطى، حيث تلتقي الجيوش في موعد مقرر ومكان محدد. وهذا ما حدث تحت سمع وبصر الاعلام والصحافة.
ولكن الجيوش انسحبت من ساحات الوغى ولم تحارب، لم يحدث القتال ولا حتى أي شكل من اشكال المبارزة، كما حدث لاحقا بعد ستة سنوات العام 1973 بين الجيوش المصرية والسورية واسرائيل، وقبلها قبل هذه المواجهة بقليل في معركة الكرامة العام 1968، بين الفدائيين واسرائيل. والعام 1982 مع فتح، وبعد ذلك حزب الله في جنوب لبنان وحماس هنا في غزة خلال ثلاث حروب متواصلة.
وقعت الحرب التي لا زال يؤرخ لها ولكن الحرب لم تحدث واقعا، حتى لكأن النصر الاسرائيلي الكبير اكبر انتصارات اسرائيل على الاطلاق، كان اشبه بالخرافة او الاسطورة يشبه النزهة او النزوة لجيوش قررت منذ البداية الانسحاب من الحرب، حتى ان جمال عبد الناصر وصفها بالانتكاسة، وهو معنى يفيد انها اقل من هزيمة.
وما جرى في الواقع ان المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش المصري مارس نفس المناورة عام 1956 التي اقتضت سحب الجيش المصري من سيناء، التي لم يكن ممكنا الدفاع عنها في مواجهة الانزال البريطاني والفرنسي المتوقع شرق قناة السويس، مركز الهجوم الرئيسي للعدوان الثلاثي. وفيما كانت هذه المناورة ناجحة وذكية في حرب السويس اتاحت لمصر التصدي للعدوان وافشاله، فانها كانت كارثة في العام 1967 ،اتاحت للجيش الاسرائيلي احتلال كل سيناء من دون مقاومة حقيقية تتصدى له.
وظني اليوم انه حتى الضربة الاستباقية والمباغتة التي قامت بها اسرائيل صباح يوم الاثنين الخامس من حزيران، ما كان لها ان تحسم الحرب لو لم يرتكب هذا الخطأ بسحب الجيش من سيناء، لان اسرائيل ما كان لها ان تملك التفوق البري لدحر الجيش المصري في عموم سيناء. التي لا يمكن للجيش الاسرائيلي تغطيتها بقواته من الناحية الكمية، وكانت في الوقت نفسه تسمح للمصريين القدرة على المناورة.
وما حدث على الجبهة المصرية حدث ما يشبهه تماما او من دون مبرر اعطى وزير الدفاع السوري الجديد حافظ الاسد الامر بانسحاب الجيش السوري حتى قبل ان يجري أي قتال فعلي من هضبة الجولان. لكن خطأ الاخطاء يظل هو اعتقاد جمال عبد الناصر استنادا الى الهيبة الاعلامية التي بناها حول قوته الكاسحة، انه عبر هذه المناورة السياسية التي ادارها بما يسمى بحافة الهاوية، والتهديد الجدي بخوض الحرب، انه يمكن ان يحقق النصر الذي اراده بردع اسرائيل من دون قتال.
اذ في حقيقة الامر لم يكن عبد الناصر يريد خوض الحرب، لكن الواقع ان اميركا واسرائيل كانت تريدها، وقد اسموا هذه الحرب في الدوائر السرية الاميركية «اصطياد الديك الرومي»، وكان المقصود بذلك اصطياد جمال عبد الناصر الذي سار الى الفخ بنفسه.
لم يعترفوا اذن فيما بعد بانهم هزموا لانهم لم يقروا بانهم قاتلوا، وكانوا محقين بذلك وبدت الحرب نفسها بقصر مدتها ولكن بحجم مساحات الاراضي التي استولى عليها العدو، كحدث يستعصي على التفسير اشبه ما يكون بمصادفات غريبة لا يمكن الاقرار بنتيجتها او التسليم بها.
ومن جانبهم الفلسطينيون المصدومين مرة اخرى بما حدث لم يسلموا او يعترفوا كما فعلوا في نكبتهم العام 1948 ،بانهم هزموا ا وان اسرائيل تمكنت من هزيمتهم او دحرهم. ولا زال الخطاب الفلسطيني العلني وغير العلني يرى الى ما جرى العام 1948 والعام 1967 هزيمة للدول العربية، وسوف يتأكد لهم الاّن صحة الشعار الذي طرحته حركة فتح العام 1965 ،بالاعتماد على انفسهم وحدهم كما لو انهم ادركوا منذ ذلك الحين، ان عليهم ان يقلعوا شوكهم بايديهم دون ان ينتظروا الخلاص من خارجهم، وهذا ما حدث خلال الخمسين عاما ولا يزال الى الاّن.
ودون ان تخطط اسرائيل التي فوجئت ايضا بما حدث كما كان يفترض ان يقع، فان ما حدث بعد ذلك هو من قبيل غير المتوقع. واذ سلم العالم باقامة اسرائيل على حدود العام 1948، فانه لم يسلم باي ارض احتلتها العام 1967. واذا كانت النتيجة المباشرة للحرب اقامة التحالف الاميركي الاسرائيلي، بعد ان اكتشفت اميركا المذهولة من حجم الانتصار في ذروة الحرب الباردة، ان هذه الدولة الصغيرة ولكن المدهشة يمكن ان تكون بمثابة كنز استراتيجي، الا ان هذا التحالف او المكسب الوحيد الذي حققته الحرب، ما كان له ان يغير من حقائق الصراع على مدى الخمسين عاما الماضية، ليجعل ممكننا لاسرائيل ان تحصل على النزعة التوسعية والسلام معا، الى ان اصبح الاميركيون في نهاية المطاف يجاهرون علنا كما اوروبا بعدم الاقرار بما حدث.
ولعلها بهذا التصور اليوم تبدو هي الحرب الاكثر التباسا في ظروف حدوثها وفي المفارقات التي حملتها او انطوت عليها، فقد حاربت اسرائيل الدولة الوليدة حليفة فرنسا في ذلك الوقت بالسلاح الفرنسي الخالص. ان طائرات الميراج الفرنسية هي التي قصفت المطارات العسكرية المصرية وليس طائرات الفانتوم الامريكية، ولكن منذ العام 1968 أي بعد الهجوم الاسرائيلي على مطار بيروت سوف يقطع شارل ديغول امداد اسرائيل بالسلاح.
واليوم تبدو المفارقة احد المفارقات التي تستدعيها ذكرى الحرب، ان فرنسا هي التي تتصدر الصراع مع اميركا في الدعوة الى حشد العالم وراء اقرار حل الدولتين، الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران التي احتلتها اسرائيل بالسلاح الفرنسي، فيما يبدو العجز الاسرائيلي واضحا يوما بعد اّخر سنة بعد اخرى عن مواصلة هضم الوجود الفلسطيني الراسخ على الارض، او التخلص منهم. حين يصبح شيئا فشيئا مع مرور الزمن ان ما بدا النصر الكبير لم يكن سوى هو الوبال العظيم. وبصورة رمزية وفي الذكرى نفسها يوقع دونالد ترامب قرار عدم نقل سفارته الى القدس.