بعد زيارة ترامب إلى المنطقة .. الانطباعات المتناقضة ...حسين حجازي

السبت 27 مايو 2017 12:11 م / بتوقيت القدس +2GMT



تركنا إذن الرئيس دونالد ترامب الذي تحول مع مرور الوقت الى صديق دائم لنا في هذه المقاربات الأسبوعية، في وضع أسوأ من الحال التي كنا عليها قبل ان يحل علينا، حتى انه يصح قول المثل الشعبي خاصية حكمتنا العامية «ليتك يا ابو زيد ما غزيت». اذ كنا قبل هذه الغزوة على الأقل الرئاسية الأولى وربما هي الأخيرة، ما زلنا نمني أنفسنا يحدونا الرجاء والأمل او الوهم لا فرق، بان تكون هذه الإطلالة الميمونة هي الضربة القاضية، ولكن للأسف فقد جاءنا الرجل وهو لا يزال تحت تأثير النشوة التي لم يستطع إخفاءها او يفيق منها، من عقدة الصفقة، صفقة المال الكبرى حقاً في محطته الأولى في الرياض. وللأسف دون اي وضوح اثر متوقع للقدس في مثل هذا الحدث الذي قال ترامب نفسه أمام أبو مازن في بيت لحم انه لا سابقة له. 
العاهل الأردني الملك عبد الله  تحدث كالسيف القاطع في غمرة هذا الاحتفال، كما لو انه اراد تذكير الضيف المحتفى به بالقدس، قال الملك الهاشمي: القدس وحل الدولتين. فهنا الوردة ولتكن الرقصة الجماعية ورقصة السيوف هنا. 
وحتى بخلاف حفاوته في استقبال رئيسنا ابو مازن في البيت الأبيض، التي أطارت عقولنا نشوةً وطرباً، دعتنا الى ما هو اكثر من التفاؤل. فإنه بدا أمام اليمين الإسرائيلي كما لو انه يلقي بالقصيدة التي أعدها في بوحه لهذا الغزل والحب، يطير بعقول هذه الزمرة المنبوذة عالمياً، ويجعلهم فيما بعد يفقدون صوابهم في غزو القدس القديمة قدسنا، بالأعلام والسيوف يرقصون رقصة الأعلام. وكأنما هذا ليس رجل دولة هي اقوى دولة في العالم، ولا حتى يشبه الأباطرة في الأساطير القديمة. ولكنه ممثل هازئ مغامر يبحث عن الإثارة والتسلية والتلاعب بمشاعر الآخرين، وهكذا المرة الأولى يبدي هذه العاطفة إزاء الفلسطينيين، والمرة الثانية ينقلب عليهم. 
كيف لنا اذن والحال على هذا النحو ان نمسك به او نجعله قابلاً للتحليل؟ كما لو اننا نخوض مهمة اشبه بمحاولة التصنيف او التنميط او التدجين ازاء المخلوقات الغريبة؟ والجواب ان هذه المهمة الشاقة لا تحيرنا وحدنا، ولكن العالم بأجمعه لا يزال يتصارع مع هذا الوضع في محاولة جعل هذا الرجل ربما الماكر جدا او الساذج جدا قابلا للتحليل. 
هل أوضحنا نوعاً من هذا الالتباس او حتى الارتباك الشخصي بل العالمي على مستوى الصحافة العالمية في التحليل؟ اذا كنا في حالتنا يمكن ان ننتقل سريعاً من الرهان المدعم بالحجج والفرضيات والمؤشرات والوقائع، الى هذا الشعور بخيبة الأمل بل الإحباط والغضب واليأس؟
ولكنني أظن ان ما وراء هذا الارتباك ربما العنصر الثالث العميق والخفي في شخصية الرجل وأدائه، وهذا يكمن في قدرة حاذقة تستدعي الدهاء على المناورة في إخفاء خطته، لجعل الآخرين كما يحب في حالة انجذاب دائمة، وفي محاولة التخمين المتواصلة لما يقصده الرجل. لكيما يستطيع في الوقت المناسب طرح خطته بوضوح، حين يكون في غضون هذه المراوغة المتواصلة قد استطاع إذابة مواقفهم او صلابتهم. 
هل هذا الافتراض صحيح؟ ولكن بماذا نستطيع تفسير أدائه الأخير بين إسرائيل وفلسطين؟ حينما يبدو انه يتحدث بعاطفة مفعمة أمام الإسرائيليين أقرب أن يكون في هذا الخطاب كيهودي صهيوني أو عضو في الليكود، أما في بيت لحم أمام الفلسطينيين فلا تستغرق الزيارة سوى تسعين دقيقة، وتبدو كالإغارة في قصرها وجفافها العاطفي. حتى انه تحاشى زيارة كنيسة المهد لئلا يرى او يقول كلمة لأمهات الأسرى المحرومين من زيارة أولادهم المضربين عن الطعام لأكثر من شهر.  
وقد بدا جارحاً وربما صادماً لمشاعر الفلسطينيين حين بدا جاحداً لا يظهر أي عاطفة إزاء معاناتهم وشقائهم ومظلوميتهم، مرتداً الى اصله كرجل أعمال وتاجر وليس كرجل دولة، همه الحصول على المال ولكنه لا يفهم او يقدر حقوق الإنسان. وذلك بخلاف أسلافه الرؤساء الأميركيين الذين تحدثوا عن الاحتلال والحواجز وكرامة الفلسطينيين. 
هل نرتفع فوق مشاعرنا حتى لكأننا نلمس في خطابه نوعاً من العنصرية ضدنا. ونمارس هذا القدر من كظم الغيظ الذي يحث عليه ديننا، لنخلص أخيراً الى ان نرى في ذلك نوعاً من المداهنة والنفاق السياسي، الذي يقتضيه الشغل، لانه يريد في نهاية المطاف ان يأخذ منهم ثمن هذا الالتزام الشخصي الذي كرره خلال زيارته ست مرات لعملية السلام، وانه يدرك انه لا يستطيع ان يطلب من الفلسطينيين بالمقابل أي شيء. وهكذا لم يكن مضطرا معنا الى هذا النوع من المجاملة، بل ولا بأس من إقناع الإسرائيلي المتطرف بانه يجافي مراعاة الفلسطينيين، نوعا من الضحك على الذقون كما نقول.
وما يؤكد هذه الحجة او الفرضية انه أعطى الإسرائيليين كلاما، لكن في الواقع لم يعطهم أي شيء حتى الآن. بل بدا يقضم من تصميمهم قطعة وراء قطعة، من إلزام نتنياهو وقف الاستيطان الى التراجع عن وعده نقل السفارة الى القدس، بل رفض بطريقة مهينة واحتقار ان يصاحبه نتنياهو او أي مسؤول آخر إسرائيلي في زيارته الى حائط البراق، وقال بجلافة انه جزء من الضفة وليس من إسرائيل. وبالتزامن مع ذلك نشروا في البيت الأبيض خريطة لإسرائيل قطعت منها الأراضي الفلسطينية المحتلة والجولان، وهكذا تفترض هذه المحاججة ان ما يهم ليس المجاملات والأقوال وإنما أفعال الرجل، أي الوقائع والأفعال. 
وفي الأفعال لا يمكننا ان نساوي او نقارن الصلف والخشونة التي عامل بها زعماء الحلف الأطلسي في بروكسل، الذين عاملوه بجفاء وبرود بالمثل، بلقائه مع الرئيس ابو مازن والقيادة الفلسطينية في بيت لحم. وهو اذ أطرى على الملك سلمان والقادة العرب والمسلمين طويلا أمام الرئيس الفلسطيني، فإنه لم يأت على ذكر الإسرائيليين بالمثل.  
وبقي في خلاصة هذه الرحلة او الزيارة بانه اكد للرئيس الفلسطيني، انه يترك الفلسطينيين والإسرائيليين مع مبعوثه لتحقيق عملية السلام، وتأكيده أمام الرئيس بان الموعد لن يطول اكثر من أسابيع لطرح خطته للسلام، على خلفية المبادرة العربية. وان دلالة هذا الجدل الذي رافق زيارته يظل أخيراً بالنسبة لنا مواصلة هذه المقاربات في كل مرة، في محاولة الوقوف على حقيقة الرجل، لكي نعرف بدورنا كيف التعامل معه بالرغم من هذه المشاعر المتناقضة، التي يثيرها وتحيط بمواقفه وطريقته التي لا تخلو من المفاجآت والتقلبات.