لماذا لم تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور؟ ...د. علاء أبو عامر

السبت 29 أبريل 2017 09:28 ص / بتوقيت القدس +2GMT
لماذا لم تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور؟ ...د. علاء أبو عامر



بالعقل والمنطق الإنساني كان على بريطانيا أن تعتذر عن واحدة من أكبر الجرائم التي حصلت ضد الإنسانية ألا وهي جريمة وعد بلفور التي وهبت من خلالها حكومة بريطانيا العظمى مجموعات من الغرباء إقامة وطن ودولة فيما بعد على أرض شعب أخر قديم في أرضه قدم الإنسانية ذاتها، هو الشعب الفلسطيني الذي تعود جذور حضارته إلى ما يقارب 12 ألف سنة من الآن وفق الكربون 14 في أثار تليلات الغسول وأريحا ووادي النطوف، جريمة لم تنقطع بل مازالت فصولها مستمرة منذ مئة عام، عانى فيها ومازال يعاني الفلسطينيين الويلات، من قتل وتشريد وحرمان من أبسط الحقوق الآدمية وهي العيش بِأمان وحرية في أرض وطنهم.

لكن السؤال هو لماذا فّعل الفلسطينيون مطالبتهم هذه في ظل الظروف الراهنة الغير مواتية التي تشهدها منطقتهم والعالم أبرزها عودة أجواء الحرب الباردة وصراع القوى وغياب القوى العربية القومية المركزية الداعمة بالمبادئ والافعال للجهود الفلسطينية من أجل استعادة وطنهم المسلوب؟

لماذا جاءت المطالبة الفلسطينية في وقت ينحدر فيه العرب، أغلب العرب، نحو التطبيع مع إسرائيل والقبول بها ككيان طبيعي في المنطقة، كيان حليف وسند لهم في مواجهة العدو الجديد ألا وهو الحلف الفارسي الشيعي وفق توصيفات الدول الخليجية وهو ما بات يعرف اليوم بالحلف السني الإسرائيلي؟

لماذا لم يفعل الفلسطينيون هذه المطالبة زمن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي السابقين وزمن التعاطف العالمي غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني وثورته في السبعينات وبداية الثمانينات حيث حقق هذا التعاطف واحداً من أكبر المكاسب وهو تجريم الصهيونية وبقرار أممي كحركة استعمارية عنصرية وشكل من أشكال التمييز العنصري؟ وكان يمكن البناء على هذا القرار الأممي ومطالبة بريطانيا بالاعتذار ، ربما لو طالب الفلسطينيون في ذلك الوقت لكانت النتائج أفضل فقد كان هناك مازال شك في استمرار هذه الدولة اللقيطة والوظيفية، أما الآن فإسرائيل دولة إقليمية عظمى الكل يخطب ودها وأصدقائها في ازدياد.

لماذا يُكرس الفلسطينيون جزءاً من وقتهم وجهدهم نحو قضايا معنوية قد تفيد وقد لا تفيد فهي في أبعد معنى لها تتلخص في جعل البريطانيين يريحون ضمائرهم بلفظ كلمة اعتذار فقط، والاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة على حدود عام ١٩٦٧ أي على 22% من أرضهم ووطنهم ، دون أن يتبع هذا الاعتذار أي التزام بريطاني بتعويضات مادية أو التزام أخلاقي تجاه تفكيك الكيان الذي صنعته إياديهم والذي قام بدوره وبدعم منهم وبدعم القوى الغربية الحليفة لهم في خلق النكبة والمأساة لما يقارب اليوم 12 مليون فلسطيني، الالتزام بتفكيكه من خلال نزع شرعيته التي استمدها فقط من ذلك الوعد الظالم ومن شهادة ولادة هذا الكيان في قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948المدعوم بريطانياً؟

في الواقع لا يمكن طرح سؤال لماذا الذي أطرحه أنا، لأنه لا يوجد لماذا في الزمان والمكان الفلسطينيين، إذ على الفلسطيني أن يدق كل أبواب العالم وكل الضمائر الحية للوقوف إلى جانبه في وجه آلة الظلم والقهر الرهيبة التي تعصف به والتي صنعتها بريطانيا الاستعمارية.

كان على الفلسطينين فعل ذلك ومازال على الفلسطينيين فعل ذلك ، كان عليهم مطالبة هذه الدولة الاستعمارية القديمة أن تعتذر، إذا لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد أو خلال عام أو عشرة أو عشرين عاماً، يوما ما سينجحون في ذلك فالجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم فمن يُحيى ذكرى مجازر الأرمن على يد القوات العثمانية ويطالب تركيا بالاعتذار والتعويضات مُطالب أيضا بالاعتذار للشعب الفلسطيني الذي تعرض ويتعرض لحرب أبادة، ولجرائم مركبة أقلها جرائم الابارتهايد والاستيطان الإحلالي العنصري بالاعتذار أيضاً عن فعلته اللاإنسانية. ولكن كي ينجح الفلسطينيون عليهم النضال والعمل على تكوين سند أوروبي أخلاقي بشكل عام وبريطاني بشكل خاص داعم لهم وهو مازال غير متوفر بالقدر الكافي في الوقت الحاضر (وهو ما بينته حملة جمع التوقيعات 11 ألف فقط من وقعوا على تلك العريضة) ولكن من يدري كيف سيكون الوضع في المستقبل.

لماذا لم ننجح ولن ننجح قريباً؟

لأن الاعتذار عادة ما يكون تعبيراً عن الندم وبريطانيا بعد لم تندم فقد كانت إقامة إسرائيل أو وطن اليهود في فلسطين هو هدف ذو طابعين لاهوتي واستراتيجي أما اللاهوتي فله علاقة بطبيعة عقائد البروتستانت عامة والإنجيليين خاصة فهم يعتبرون أن عودة المسيح إلى الأرض مرتبطة بعودة اليهود إلى فلسطين وهي العقيدة التي أسس لها الراهب الألماني مارتن لوثر (1483 - 1546) وهي أساس الصهيونية العملية ، لا أريد في هذا المقال المختصر أن أخوض في الصهيونية المسيحية التي مازالت ذات تأثير كبير في دول كالولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا وكندا وكلها دول من صنع التاج البريطاني، ولكن بإمكان المرء العودة إلى كثير من الادبيات ذات العلاقة بهذه الصهيونية سواء كانت لوثرية أو كالفينية أو تطهيرية ، ليفهم أن الاعتذار البريطاني غير وارد وفق هذه الرؤية المسيحانية.

أما من الناحية الاستراتيجية فإن وثيقة (كامبل بنرمان) 1905-1907وماسبقها من استراتيجية نّظر لها شافتسبري وتشرشل وغيرهم من الساسة البريطانيين مضمونها تفتيت الوطن العربي إلى دول صغيرة متناحرة ووضع حاجز بينها ليمنع وحدتها وتطورها ، وقد نُفذت في مرحلتها الأولى عبر سايكس بيكو الأول 1916و نجحت هذه الاستراتيجية نجاحا تاماً في تكريس الواقع العربي الذي أفرزته نتائج الحربين العالميتين حتى الآن، فقد أصبحت الهوية القطرية هي الأصيلة في عالمنا العربي بينما أخذت في التلاشي حد الغياب الهوية القومية الجامعة على أرض الواقع، والآن تُطبق المرحلة الثانية التي مازلنا نعيش أطوارها في العراق وسوريا واليمن وليبيا وفلسطين، تُطبق بالدول الأدوات، والتنظيمات الدينية الأدوات، التي صنعتها بريطانيا نفسها في المنطقة والمتعاونة مع إسرائيل التي هي نتاج الوعد الظالم غير الإنساني ، وفق نظرية تقسيم المقسم وتجزئة المجزئ عبر سايكس بيكو الثانية الذي مهدت لها كوارث (ربيع الخراب العربي).

وعليه من الطبيعي أن يفشل الفلسطينيون في الحصول على اعتذار بريطانيا، لأنهم أي البريطانيون لا يعتبرون أنهم أخطئوا. إذن لماذا يعتذروا عن مشروع يُعتبر من أكثر المشاريع البريطانية نجاحاً، كيف يعتذرون وكيانهم الذي أنشأوه يحظى اليوم باعتراف معظم دول العالم وبعضها عربي وإسلامي، بل وتعترف به منظمة التحرير الفلسطينية وبحقه بالوجود على 78% من أرض فلسطين؟

لذلك بريطانيا لم تكتفي برفض الاعتذار بل فاخرت به وستتوج هذا الفخر بالاحتفال بمرور مئة عام عليه.

أما الفلسطينيون فسيبقون يعيشون في نضال، وخلف كل نضال، نضال، حتى يحصلون على حقوقهم واستعادة وطنهم وسيطالبون كل من ساهم في خلق مأساتهم أن يعتذر، ليس لأن ذلك ظلم لهم بل لأن ذلك فيه خرق لمبادئ الإنسانية جمعاء، ولأن وجود كيان وعد بلفور هو السبب في كل نزيف الدم الذي أصاب المنطقة وامتدت شظاياه إلى كل دول العالم.

لكن اليوم هناك قضايا أهم من اعتذار بريطانيا المعنوي، هناك انقسام فلسطيني يجب أن يتوقف وهناك ظلم فلسطيني يقع على أخيه الفلسطيني يجب إزالته، حتى يصبح بالإمكان توحيد الجهود والاعتماد على الذات للحفاظ على ما تبقى من أرض وسماء وإرادة لاستمرار النضال.