بعد عشر سنوات من الانقسام، عليكم النجاح في حل هذا المأزق ..حسين حجازي

السبت 15 أبريل 2017 08:29 ص / بتوقيت القدس +2GMT



لا يحب الناس في عموم الأحوال ومختلف العصور والأزمان، ان يؤخذ منهم ما يعتبر انه مكتسبات او حقوق او امتيازات يملكونها، حتى ان هذه الملكية الفردية هي حق وقانون في الشرائع السماوية والدنيوية على حد سواء. ولكن خلال الأزمان السابقة وحتى الراهنة كما عوائد الظروف وتقلبات الأحوال، فإن القاعدة للأسف كانت ولا تزال هي ما قاله السيد المسيح في موعظته الشهيرة موعظة الجبل "ان من له فيزاد ومن عليه يؤخذ منه" أي ان الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقراً.
ونشأت الوظيفة العامة مع نشوء الدولة القومية البرجوازية الحديثة قبل ثلاث قرون، مع انتصار الثورة الصناعية وزوال النظام الزراعي الإقطاعي. وكان هؤلاء الموظفون يمثلون الجهاز البيروقراطي للدولة، التي تمثل بدورها ما يسمى النظام العام وما زالت الدولة تسمى بهذه الصفة " النظام". وكان آدم سميث احد ابرز المنظرين الاقتصاديين لهذه الدولة الحديثة هو من لاحظ أولا تحول هذه الدولة لأن تصبح في احد اهم أدوارها ما يسمى "المشغل العام" او المقاول الكبير، وكان هذا الدور يؤدي في الأزمات لإظهار الانطباع بالتحسن العام او الازدهار او التقدم من خلال التوسع في التوظيف العام.
وعند انشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، عمد عرفات منذ البداية الى التوسع في ملء وزارات وجهاز السلطة بالموظفين الحكوميين، وكان عرفات يقصد من وراء ذلك الى ربط اكبر لمصالح الناس الحيوية والمباشرة بالسلطة الوليدة، من اجل تدعيم قوتها ولقائها عبر هذه المصالح المباشرة لأكبر عدد من الموظفين. وعلى طريقة آدم سميث لأجل خلق الانطباع والشعور العام بجاذبية السلطة كما التقدم وتحسن الأحوال، والتأكيد على دور هذه السلطة باعتبارها نواة الدولة القادمة والمشغل او المقاول الكبير، كنوع من التماهي مع صورة الدولة التقليدية الحديثة.
وقد نجح عرفات في هذا الهدف، ومع جيش ضخم من الموظفين العموميين لم تصبح السلطة حقيقة راسخة وواقعا لا يمكن تهديد وجودها، ولكن تحولت هذه الوظيفة العامة الى احد اهم مصادر الحركة الشرائية والاقتصادية اقله في واحدة من اكثر مناطق السلطة كثافةً سكانية أي في غزة، ولا سيما في غضون السنوات العشر العجاف التي مرت على المدينة وما زالت، بأحداثها الثلاثة الكبرى، الحصار والانقسام وثلاث حروب مدمرة قضت على مجمل قطاعها الصناعي والإنتاجي.
لكن دعاة إسلاميين وبينهم طارق سويدان على سبيل المثال، يحاججون ان الوظائف العامة تتناقض وتتعارض مع العقائد، اذا كانت الحجة في ذلك انه لا يمكن للناس او الموظفين ان يعبدوا إلهين؛ رب العمل او المشغل العام الذي هو هنا الحكومة، ورب العباد الله الذي هو الرزاق الأوحد، والذي لا يقبل الشراكة معه بأي حال. ويستشهد هؤلاء او يدلون على موقفهم في نبذ الوظيفة العامة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بان تسعة أعشار الرزق يكون في التجارة، ولم يأتِ الإسلام كما فعل بالحديث عن التجارة على ذكر الوظائف والوظيفة العامة، التي لم تكن موجودة آنذاك. والنتيجة انه لا تذرفوا الدمع على قطع باب الرزق من هذه الناحية، ويدافع طارق سويدان عن هذه الفكرة من ان اغلاق باب الرزق من هذه البوابة هنا انما يفتح باب الرزق من بوابة افضل.
هل يستطيع موظفو السلطة الوطنية السبعون ألفاً في غزة والذين صدموا وما زالوا تحت وقع الصدمة منذ أيام، كما الغزيون وتجار شارع الرمال الشهير في غزة وسوق الزاوية الأقدم في المدينة، السماع الى أقوال الشيخ سويدان ليس عن فضيلة الخير بقطع الراتب، ولكن عن جزء محدد من هذا الراتب لا يتجاوز العلاوات او 30%؟ والجواب كلا. بل هل تستطيع "حماس" العقائدية نفسها التنازل عن حقوق ومكتسبات رواتب موظفيها الأربعين الفا؟.
ويحاجج الرئيس الذي يبدو أنه في الآونة الأخيرة عيل صبرُه او طفح الكيل بالنسبة له، من انه اطعمهم رغم الانقسام طوال السنوات العشر من جوع ولكن الى متى؟ يقول الرئيس: الى متى يا "حماس" يستمر ذلك في هذا الانقسام؟ وخاطب بوضوح سفراءه الذين يعقدون مؤتمرهم في البحرين: اننا في وضع صعب أقدمت فيه "حماس" على اتخاذ موقف غير مسبوق، وسوف اتخذ إجراءات انا أيضا بالمثل، إجراءات غير مسبوقة، اذا لم تعد حماس وينتهي هذا الوضع الشاذ.
وسُمعت الرسالة في غزة وتمت قراءتها من لدى حماس والموظفين وتجار سوق الزاوية والمواطنين العاديين وربات البيوت والنخب الغزية، وحيث يرتسم مشهد الازمة او المأزق الفلسطيني المتبادل بين رام الله وغزة بين الرئيس و"حماس" معاً، وهو المأزق الذي لا يمكن الآن التجاوز عنه او القفز فوقه دون الإقدام المشترك على حله.
وهذا الإصرار على حله من قبل الرئيس لم يكن له سابقة، إذا كان الرجل محشوراً في الواقع، اضطُر ان يخاطر بهدف افهام حماس والضغط عليها، الى اتخاذ قرارات وإجراءات غير شعبية، وهي ما ينطبق عليها فعلا أنها مؤلمة وصعبة بل وقاسية وحادة في الجرح نفسه، بلعب الأوراق الوحيدة ولكن الأخيرة التي يملكها ويعتقد انها يمكن ان تضغط على الناس أي الغزيين ويضغطون بدورهم على حماس، التي بدا كما لو انها في اجرائها الأخير تشكيل اللجنة الإدارية، الذي لم تكن له ضرورة كما لو انها تقطع شعرة معاوية مع رام الله والرجل، وتستفزه من دون داع لذلك. يضعها الرجل باجراءاته أمام الامتحان الأخلاقي والسياسي العسير والصعب، أي في التجربة الصعبة ان كانت تفضل المضي في الانقسام على حساب معاناة الناس؟ وبالتالي اتخاذ القرار جدياً والبدء الفعلي بالتحرك من اجل الوصول الى الحل وليس كسب الوقت مجدداً.
لكنّ أي مُرٍّ دفعه الى ما هو أمر منه؟ وتحت اية ضغوط وربما مخاوف او هواجس طارئة وجديدة اتخذ الرجل قراره؟
ويمكن الاعتقاد ان الرجل الذي يخوض ربما أصعب معاركه السياسية الحاسمة في تقرير مصير القضية الفلسطينية، يخشى جدياً في ظل الانقسام ان تتحول غزة لتصبح خاصرته الضعيفة او كعب أخيل، التي يمكن ان ينفذ البعض الإقليمي منها للالتفاف على ترسيمة حل الدولتين، وحيث يبدو في الواقع الرجل غير واثق من شيئين الى الآن، بعض الأطراف الإقليمية ودونالد ترامب الذي لا يزال غامضاً ومحيراً. وقد سعى الى التوصل مع "حماس" ولو شكليا على خطوات من شأنها ان تقفز فوق الانقسام، احداها حكومة الوفاق واحداها الانتخابات البلدية او المحلية، وآخرها اليوم الاتفاق على حكومة وحدة وطنية من اجل تدعيم موقفه في هذه المعركة، ويسد ما يعتقد انها الشقوق والثغرات في الجدار الفلسطيني.
وأرجو ان تستطيع "حماس" تفهم دوافع الرجل وتقدر مخاوفه، كما نرجو من الرئيس تقدير ان غزة لا يمكنها ان تحتمل المزيد من الضغوط، وانه على فتح وحماس معا النجاح في هذا الامتحان بإيجاد حل ومخرج لمأزقهما معاً، بالتوصل الى حل يُنهي معاناة موظفي السلطة كما موظفي "حماس" في ظل شراكة حقيقية قوامها حكومة وحدة وطنية تبعد غزة عما يُحضَّر لها.