سوريا بين نهاية داعش ووضع أوزار الحرب ...د. فادي الحسيني

الأربعاء 05 أبريل 2017 11:54 م / بتوقيت القدس +2GMT
سوريا بين نهاية داعش ووضع أوزار الحرب ...د. فادي الحسيني



قد يعتقد القارئ أن عنوان المقال فيه شيء من التفاؤل وخاصة في ظل التطورات الجارية على الأرض والتي تستمر في التدحرج نحو مجهول موحش أضحى غير مرئي من شدة سوء هذه التطورات. ولكن حقيقة الأمر ليست كذلك، فلا هناك تفاؤل ولا هناك بعد أو تغافل عن التطورات الجارية على الأرض، ولكن هناك مؤشرات وإشارات، تبعها تحيللات لا تذهب خلاصتها إلا لهذه النتيجة.

كنت قد ذكرت في مقالات سابقة بأنني لست من مؤيدي نظرية المؤامرة، وخاصة أنها الخيار الأسهل لنفض أي غبار من مسؤولية وطنية أو قومية حيال أي بلاء يحل على بلدٍ من أمتنا العربية. ولكن كلما أسرح في تتابع الأحداث وتطوراتها، لا أجد تفسيراً غير وجود قوة خفية تعمل بدأب على إيصال الأمور لغاية بعينها في هذه المنطقة بالتحديد. قد تتغير أو تتبدل الأدوات، وقد تتعدل وتتحدث السبل، ولكن يبقى الهدف الأوحد – والنتيجة إلى هذه اللحظة – هو إبقاء سكان هذه المنطقة مقسمين مقطعي الأوصال، يبعدون عن بعضهم رغم قُرب مدنهم، متباعدين في مشاعرهم، رغم تقارب ثقافتهم وتاريخهم.

ولكي يكون هذا التحليل واقعياً، وجب إضفاء بعد تاريخي متسلسل لا يجعل أي مكان للشك في دقة ملامحه، فمنذ زمن بعيد وحين كان أكثر العرب يعيشون تحت الحكم العثماني، دأبت القوى الكبرى في العالم على محاولة إبقاء سكان هذه المنطقة متباعدين، إما من خلال المحاولات المتكررة للغزو، أو من خلال دعم قيادات ليثورا على السلطان وإعلان الإستقلال. تقسم العالم الإسلامي فعلياً بقيام الدولة الصفوية في بلاد فارس، فإستنزفت الحرب بين العثمانيين والصفويين ما إستنزفته، وحين بدا وكأن العثمانيون قد حسموا الحرب في منتصف القرن السادس عشر، تدخلت إحدى القوى الكبرى آنذاك (مملكة البرتغال) لتمنع سقوط الدولة الصفوية إبان حكم الشاه إسماعيل الصفوي. محاولات الدول الكبرى لتفتيت وحدة المكان إستمرت،  بإزكاء النزعات القومية داخل الدولة العثمانية تارة وبإحياء النعرات الطائفية والدينية تحت بند الأقليات الدينية تارات أخرى.

ثم سجل التاريخ وقائع مؤتمر كامبل الذي عٌقد في الفترة 1905- 1907، بمشاركة كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا.وأشارت ملاحظات جميع الكُتّاب العرب بأن هذا المؤتمر أصدر وثيقة “سرية”  تخلص إلى حقيقة ونتيجة: الحقيقية هو أنه يعيش على الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط شعب واحد تتوفر له من الحضارة ووحدة التاريخ والدين واللسان ما يُشكل تهديداً للحضارة الغربية، والواجب حرمان هذا الشعب من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية، أما النتيجة هو ضرورة إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، مع محاربة أي توجه وحدوي فيها، ومن أجل لتحقيق هذا الهدف، دعا المؤتمر إلى إقامة دولة غريبة عن نسيج هذه المنطقة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي، يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب وتكون أداة معادية لسكان المنطقة، كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا فصلاً مادياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً.

وعلى الرغم من أنني بحثت ملياً عن ما يُثبت هذا الطرح، إلا أنني لم أجد أي وثيقة صدرت عن المؤتمر – الذي أقيم بالفعل في الفترة المذكورة – تفيد بهذه النتائج. ومع ذلك، فإن التطورات التي تلت هذا المؤتمر تقود لذات النتيجة، أكان بإتفاق سايكس بيكو (عام 1916)، أو وعد بلفور (1917)، وما تلاه من هجرة يهودية إلى فلسطين وقيام دولة إسرائيل عام 1948 حين سلمتها القوة العظمى آنذاك (بريطانيا) الأرض، والسلاح، والمواقع العسكرية، وكل ما يُثبت أقدام القادمين الجدد.

زالت الإمبراطوريات العتيقة، وإختفت القوى الكبرى القديمة وظهرت إمبراطوريات جديدة… تغيرت الأسماء إلا أن الإستراتيجية الغربية حيال المنطقة لم تتغير. أضحى العالم يعيش في نظام القطبية الثنائية، فكان الإتحاد السوفييتي أول دولة تعترف بإسرائيل قانونياً متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي إعترفت إعلامياً بإسرائيل بعد 11 دقيقة من إعلانها في عهد الرئيس هاري ترومان. وهنا أخطأ العرب مرتين، المرة الأولى حين ظن قسم منهم أنه قد يضمن جانب أحد القطبين، فيوفر له الحماية ويتجنب شرور أطماعه، أما المرة الثانية حين ظنوا أن صراعهم مع دولة إسرائيل الوليدة، وليس مع قرار القوى العظمى – مجتمعة.

ولكن الأمر يبدو بديهي بقليل من التمعن، فمكونات إسرائيل غربية بإمتياز، وأسباب تأسيسها غربية بإمتياز، وعنوان صمودها في وجه أي تحديات كانت أيضاً غربية بإمتياز. تسلل الشك في قلوب العرب حين فشلوا في حروبهم ضد إسرائيل، لأنهم وبكل بساطة إعتقدوا مخطئين بأنهم يحاربون دولة صغيرة، في حين أنه في واقع الأمر كانوا يحاربون الدول العظمى بإختلاف إسمائها وبمختلف المسميات.

في هذا السياق، يقول أحد عناصر الحرس القديم في الثورة الفلسطينية أن النتائج الحالية في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ليست مبنية على قوة إسرائيل وضعف الفلسطينيين، بل لأن الغرب قد أحاط إسرائيل بغلاف يحميها من أية هجمات مهما عظُمت، ووفر لها دعماً عسكرياً ومالياً ليبقيها في قلب المنطقة العربية، وإن كان من أمرٍ يمكن فعله هو العمل الدبلوماسي لتفكيك هذا الغلاف رويداً رويداً. وقد تكون حرب مصر مع إسرائيل عام 1973 خير برهان على هذا الطرح، فحين بدأت القوات المصرية في تحقيق إنتصاراً، رفضت القوة العظمى أن تُكسر إسرائيل وشرعت بتزويد إسرائيل فوراً بجسرٍ جويٍ غير مسبوق لتغيير مسار المعارك.

تفتيت العرب أخذ منحى أكثر حدة بالإحتلال الأمريكي للعراق، وهو الإحتلال الذي لم يعن فقط سقوط دولة أو رئيس أو دكتاتورية أو حتى إنكفاء لشعور القومية العربية التي كان صدام حسين من أواخر المتمسكين بها، بل كان يعني تغيير نظام إقليمي بأكمله، وتغيير ميزان القوة في المنطقة بأسرها. فسقوط نظام صدام كان يعني فوراً وقوع أو تسليم هذا البلد لأحضان إيران، وكان يعني أيضاً إزكاء النعرات الطائفية، وإزكاء النزعات الإنفصالية عند الأكراد تحديداً….أيعقل أن يكون كل هذا غائباً حين قرر الأمريكيون إحتلال العراق، وتركه والإنسحاب منه كما يحلو لهم؟

ومن هنا نصل لإختلاق ما أسموه داعش، الذي لم يكن له أي وجود قبل الإحتلال الأمريكي للعراق، وتعود جذور تأسيسه لأبي مصعب الزرقاوي عام 2004. وكرد فعلٍ لهذا الخطر، باتت الطوائف الأخرى في بحث عن آلية تحميها، فتعاظم دور المليشيات الطائفية، أما الأكراد فتبررت مطالبات إستقلالهم، وهو ما كان لهم بحكم ذاتي غير مسبوق في المنطقة، فشجع هذا التحرك أشقائهم في تركيا وسوريا، وسيكون ذات التحرك لدى أكراد إيران، آجلاً أم عاجلاً.

وما دور الدول العظمى إلا تجسيد لرغبة تفتيت وتقسيم المنطقة، فضربت الإدارة الأمريكية شراكتها مع تركيا عرض الحائط حين صممت على شراكة ودعم أكراد سوريا. نعم، لا يبدو الأمر مفهوماً منطقياً، ولكن بمراجعة التاريخ، وبالتدقيق في خريطة المنطقة نجد أن العنصر الكردي هو العنصر الأخطر في هذه المنطقة بالتحديد، لأنه يهدد الحدود – التي وضعتها القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى – ومنه تفتيت وحدة أربعة دول كبرى هي إيران والعراق، سوريا وتركيا، فيتفتت المفتت ويتقسم المقسم، وتبقى هذه الدويلات في صراعات مستمرة وبحاجة دائمة لعون الخارج.

في حديثه مع  صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يقول الأكاديمي الأميركي اللبناني الأصل الدكتور وليد فارس الذي شغل منصب مستشار شؤون الشرق الأوسط في حملة الرئيس دونالد ترامب إبان الانتخابات الأمريكية أن النظام السوري يعرف بأن إدارة الرئيس ترامب تمنع توجه النظام إلى شرق سوريا، إن كان باتجاه منطقة الحسكة أو باتجاه مناطق القتال ضد داعش، وهذا يفسر لماذا – من وجهة نظر فارس – أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية وحدات مارينز إضافية إلى شمال شرقي سوريا، فواشنطن تريد أن تكون العمود الفقري في دعم القوى التي ستتقدم وتحرر المناطق التي كان يسيطر عليها داعش، وهي المناطق التي لن تسمح واشنطن بأن تسيطر عليها قوات النظام.

التحركات الميدانية تقودنا لهذه الخلاصة، بل وأكثر، فالتطورات في سوريا تقول بأن المشروع قد إقترب من نهايته، وشارف دور حزب الله  وإيران من جهة وداعش من جهة ثانية على الإنتهاء. وهنا نذكر ما قاله أحد الدبلوماسيين القدامي أن بداية نهاية الوجود الإيراني على الأراضي السورية بات قاب قوسين أو أدنى، فأصبحت الأرض ممهدة لإستئثار روسي بغنائم الحرب في سوريا، على الأقل في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، فنشر القوات الروسية على الأرض ووضع حواجز بالقرب من الحدود اللبنانية هو إستبدال لدور قوات حزب الله في هذه المناطق، بعد أن بدأ بالفعل التغيير الديموغرافي وتكريس الشكل الطائفي للمناطق المختلفة داخل سوريا، بإتفاق ضمني بين القوى الكبرى التي أقّرت سلفاً بالنفوذ الأمريكي في شمال سوريا بإسم أكراد سوريا.

في هذا السيق يقول الدكتور وليد فارس أنه وعلى الرغم من المشادات السياسية فإن لقاء الرئيس ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين اقترب، وأن هناك مزيج من موقفين صارا في العلن وما هو متفاهم عليه هو أن الحل في سوريا يمر عبر انسحاب كل القوات الأجنبية المسلحة من الأراضي السورية، وتحديداً عناصر داعش والقاعدة وحزب الله والميليشيات العراقية والبسدران وكل من أتوا بتسهيل من النظام الإيراني. ويضيف فارس بأنالاعتقاد في واشنطن أن أميركا وحلفاءها في دول الحلف الأطلسي، وروسيا وحلفاءها الدوليين كالصين، بإمكانهم الاتفاق على هذا الموضوع، أما المراحل التي تسبق هذا الحل، فأولها إلغاء داعش، وثانيها أنه يجب أن تتولى السلطة في المناطق التي كان يسيطر عليها داعش قوى سنية عربية معتدلة، لأنه إذا ذهبت ميليشيات داعش وجاء النظام السوري – كما يحصل في العراق – فإن ذلك سيؤسس لمشكلة في المستقبل. وعليه، وفقاً لفارس فإن دور مجموعة من الدول العربية مهماً لأن هناك حاجة إلى تحالف على الأرض، فأميركا لن تنشر قوات عسكرية كبرى حسب تفكير إدارة ترمب.

إذا أضحت اليوم سوريا أقرب من أي وقت مضى مقسمة لثلاث أقسام – قسم روسي يتبع النظام وطائفته، قسم أمريكي/ عربي معتدل يتبع المعارضة وطائفته، وقسم أمريكي يتبع عرق بعينه. ويمكن للمتابع رؤية صورة طبق الأصل في العراق الذي باتت تقسيماته أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. ولقد عنيت القوى العظمى أن تتناسب هذه التقسيمات مع طبيعة المنطقة، لأن التقسيمات إختلفت شكلاً في ليبيا واليمن والسودان، ليبقى المضمون تقسيم المقسم أصلاً.

ولهذا فيبدو بأن دور داعش قد شارف على الإنتهاء، لأن الغاية التي أنشئ من أجلها نفذت تماماً، ولن يكون له أي دور بعد التقسيمات التي أصبحت وبكل أسف واقع يراه الجميع، أما إسرائيل فلا يسعها سوى القول وبكل وضوح أن يهودية دولتها هو أمر يسنجم تماماً مع التقسيمات الجديدة في منطقة عكفت القوى العظمى على تقسيمها من جديد، طائفياً وعرقياً.

نكتب اليوم المقال لنخاطب تراب وطن وحجارة أرض عرفت عقود من المجد وسنوات من الرخاء، لتنتقل نسمة أمل من زهرة ياسمين، من شجرة زيتون ومن واحة في الصحراء، تحمل رسالة تقول لقاطني هذه الأرض أنكم تستحقوا أفضل من هذا البلاء، تستحقوا أن تفكروا فيما إقترتفموه في حق أنفسكم، فهو لا يخدم إلا من خذلكم، من حاربكم، من عاداكم، وهو نفسه من يسعى لتقسيمكم، بعد أن قسمكم ليبقيكم خانعين خاضعين تابعين، لا تملكوا من أمركم سوى الدعاء، وذرف الدمع على مجد وصل يوماً حد السماء، بعد إن إنزلقتم من بعد الكرب فيما هو أقسى من البلاء… هي رسالة تناشد أصالة أمة ستستيقظ يوماً لتحيي ضميراً غاب، ووعياً في خضم كل هذه المآسي تاه، ولكنه حتماً سيعود، ليستفيق، ليوحدنا من جديد، ليحينيا، حتى وإن كره الأعداء.