المثقفون العرب والمسألة السورية ..محمد ياغي

الجمعة 24 مارس 2017 07:51 ص / بتوقيت القدس +2GMT



قديماً، كنا نميز بين مُثقفي السلطة وغيرهم بحسب موقفهم من المقاومة سواء تلك المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي أو بمقاومة الاستبداد في العالم العربي.
للكثير من المثقفين، مصطلح مثقفي مقاومة الاستبداد كان مرتبطا فقط بذلك القسم من المثقفين الذين يقاومون في دول عربية إما لها علاقة مباشرة بإسرائيل أو أن مواقفها السياسية كانت تتعارض مع ما كان يعرف سابقاً بـ «محور المقاومة». المثقفون الذين كانوا يقاومون في دول مثل سورية كان يجري دائماً تجاهلهم بذريعة أن مواقفهم تضعف «محور الممانعة».
هذا التقسيم بين مثقفي السلطة ومثقفي المقاومة اختفى تقريباً مع الانتفاضات الشعبية التي حدثت في العالم العربي العام ٢٠١١، وتحديداً مع بداية الهبة الشعبية في سورية في آذار من العام نفسه. 
جزء من المثقفين العرب انحاز «للثورة السورية» تحت مسمّى الحق المشروع للسوريين في تقرير مصيرهم. 
هذا الفريق قال إنه لا يجوز تجزئة المواقف: الانحياز للثورة في تونس ومصر والوقوف ضدها في سورية بذريعة احتضان النظام لقوى حزب الله وحماس أو بسبب مواقف النظام السياسية من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أو الأميركي للعراق. 
راهن هذا الفريق على أن وجود نظام في سورية يحظى بدعم من شعبه، بمعنى نظام ديمقراطي، سيكون ليس فقط في مصلحة السوريين أنفسهم، ولكن في مصلحة المقاومة على المدى البعيد ـ على الأقل كان هذا موقفه المعلن. 
في المقابل، اختار فريق آخر من المثقفين العرب ولحسابات متعدده بعضها ذاتي ـ مصلحي، وبعضها إستراتيجي الوقوف في خندق النظام السوري. 
وتدريجياً قرر هذا الفريق اعتبار جميع الانتفاضات العربية جزءا من مؤامرة كونية. لذلك أكثر هؤلاء من استدعاء مقولة كوندوليسا رايس عن «الفوضى الخلاقة» التي بررت فيها الجرائم الأميركية في العراق وحالة انعدام الاستقرار فيه بعد الإطاحة بنظام صدام. 
واستدعى هؤلاء مصطلح «الثورات الملونة» التي حدثت في أوكرانيا وجورجيا للتدليل على أن الثورات العربية مدعومة «أميركيا» مثل أخواتها في تلك الدول. 
لا نتجنّى على هذا الفريق إذا قلنا إن مواقفه السياسية قد ساهمت في عزله عن الشعوب العربية لأنها في جوهرها تنظير لحالة الاستبداد بذريعة حماية مقاومة لم لا تقاوم. 
كيف يمكن الدفاع عن نظام يقتل شعبه بذريعة المقاومة؟ عن دولة دينية في إيران تتمدد في العالم العربي على أرضية الانقسام الطائفي فيه؟ عن تدخل روسيا في بلد عربي تستبيحه الطائرات الإسرائيلية رغم وجود أنظمتها الصاروخية المتقدمة على أراضيه؟ 
خطاب هذا الفريق معادٍ للطائفية في جوهره، لكن عدم انتقاده لجرائم النظام السوري ودفاعه المستميت عن إيران وروسيا أضعف قواعده الشعبية وساهم عملياً في تكريس الصراع الطائفي. 
المشكلة الأكبر تكمن في الفريق الأول من المثقفين لأنهم يمتلكون مصادر مالية وإعلامية أكثر بكثير من الفريق الثاني. 
رغم ادعاء هذا الفريق حرصه على الدماء العربية، وعلى ضرورة محاربة الطائفية، وعلى أهميه نجاح المشروع الديمقراطي في العالم العربي إلا أنه غيب كلياً من خطابه قضايا جوهرية تدحض جميع ادعاءاته:
أولاً، بحجة أن النظام السوري يتحمل مسؤولية انتقال الثورة من طابعها السلمي إلى العنف، تجاهل هذا الفريق كلياً الجرائم التي ترتكبها العصابات المسلحة في سورية ضد الشعب السوري نفسه. 
هذا الفريق لا يزال ينكر أن الدمار الذي لحق بـ «سورية» وشعبها لا يتحمل النظام السوري وحده المسؤولية عنه، ولكن المئات من الجماعات المسلحة التي تحارب بعضها البعض وتحارب الشعب السوري نفسه في المناطق الخاضعة للنظام. 
هذا الفريق يركز على الضحايا المدنيين الذين يسقطون بفعل هجمات النظام السوري وحلفائه، ولكنه لا يخبرنا شيئاً عن عشرات الآلاف من السوريين الذين قتلوا على أيدي الجماعات المسلحة، أو عن مئات الآلاف الذين تركوا مناطقهم هرباً من هذه الجماعات.
ثانياً، هذا الفريق وعن قصد يرفض إلى اليوم الحديث عن مكونات الثورة السورية. عندما يتحدث عن الثورة لا أحد يعرف بالضبط إن كان المقصود «هيئة تحرير الشام» الإرهابية (جماعة القاعدة)، الجماعات المسلحة الموالية لـ «تركيا»، الجماعات المسلحة الموالية لأقطار عربية، الجماعات الكردية التي تتلقى دعماً أميركيا، الجماعات السياسية المعارضة التي تلتقي بإسرائيل، أم تلك التي تريد حقاً مصلحة الشعب السوري لكنها لا تمتلك رصيداً على الأرض يؤهلها للعب دور سياسي أو عسكري. 
هذا الفريق وبحجة أن الأولوية هي لإسقاط النظام السوري، يتجاهل وعن قصد أن ما يجري اليوم في سورية لم يعد ثورة وإنما حرب بين دول في الإقليم مدعومة دولياً على الأرض السورية.
ثالثاً، هذا الفريق يخبرنا أن التدخل الإيراني والروسي إلى جانب النظام السوري هو احتلال لأرض عربية، لكنه وعن قصد يتجاهل أن التدخل التركي والغربي والإسرائيلي هو أيضاً احتلال لدولة عربية. 
المقاومة بالنسبة لهذا الفريق ضرورة عندما تكون موجهه ضد روسيا وإيران، لكنها ليست مقاومة عندما تكون ضد تركيا! 
الأسوأ أن هذا الفريق يتجاهل في خطابه أن حالة الدمار التي لحقت بـ «سورية» وشعبها، لم يكن سببها الوحيد، أو حتى المباشر، سلوك النظام السوري ضد شعبه، ولكن هذا الحشد الدولي والعربي لإسقاط النظام السوري بالقوة حتى لو كان ذلك من خلال دعم جماعات أسوأ من النظام نفسه. 
رابعاً، على الرغم من أن الخطاب السياسي لهذا الفريق «ديمقراطي» ـ بمعنى يحرص على الحديث عن أهمية مراعاة التنوع الديني والعرقي في سورية بعد إسقاط النظام فيه، إلا أن هذا الفريق يتجاهل أن «الديمقراطية» هي نظام سياسي مرتبط بوجود دولة على الأرض، وأن هذه الدولة قد تم إسقاطها فعلاً وتجزئتها بفعل الجماعات المسلحة والتدخل الخارجي. 
ويتجاهل هذا الفريق عمداً أيضاً، أن النظام الديمقراطي بحاجة إلى «ديمقراطيين» وهم غير موجودين داخل الجماعات المسلحة. 
بمعنى أن الحديث عن الديمقراطية في ظل غياب الدولة والديمقراطيين هو مجرد خطاب سياسي لإخفاء سياسات هدفها تشريع دعم الجماعات المسلحة واستمرار الحرب في سورية.
خامساً، يتجاهل المثقفون المعارضون للنظام السوري الحركات الاحتجاجية أو الهبات الشعبية في دول منسجمة مع خطابهم السياسي. 
لا يتحدث هؤلاء مثلاً لا من قريب ولا من بعيد عن الحركة الاحتجاجية في البحرين. وهم ينكرون أيضاً أن التدخل الخارجي في ليبيا الذين قاموا هم بدعمه تحت مسمى حماية الشعب الليبي قد أدى إلى تمزيق ليبيا وتحويلها إلى مكان آمن للجماعات الإرهابية. 
وهم أيضاً يتجاهلون معاناة الشعب اليمني ويدعمون طرفا فيه مدعوما بقوة من دول معادية للديمقراطية. 
الحق يقال، إن هذا الفريق من المثقفين قد ساهم في جعل النقاش عن الديمقراطية في العالم العربي مسألة مركزية، لكنه ساهم أكثر في تحويل مركزية الصراع من عربي ـ إسرائيلي إلى عربي ـ إيراني وببعد طائفي (سني ـ شيعي).
بمعنى أنه لم يساهم فقط في جعل إسرائيل مسألة ثانوية في الصراع على مستقبل العالم العربي، ولكنه عمق الحروب الأهلية في العالم العربي من خلال تجاهله لمعاناة العرب ـ الشيعة واستعدائهم في الكثير من الأحيان بذريعة حصولهم على دعم من إيران.