قاتلت في زمن الخنوع ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 21 مارس 2017 08:43 ص / بتوقيت القدس +2GMT



في كل زمن مريض، يخرج من يحدث فرقاً صاخباً ايجاباً او سلباً، ريما خلف أحدثت فرقاً إيجابياً مدهشاً، وهي تنتصر لمنظومة قيم إنسانية يجري الدوس عليها وتمريغها في الوحل. صعدت الى المسرح السياسي لترفض سحب التقرير «الوثيقة» التي تدمغ إسرائيل «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» ببناء نظام أبارتهايد وبممارسة العنصرية في وضح النهار مقدمة استقالتها التي حددت عبرها موقفها الإنساني بشجاعة وثقة وقوة. 
التقرير الذي رفضت ريما خلف سحبه استجابة للضغوط الكبيرة، لا تعوزه الدقة ولا المصداقية ولا المهنية ولا الانسجام مع القانون الدولي، فقد أعده «ريتشارد فولك» أستاذ وخبير القانون الدولي في جامعة برينستون/ نيوجيرسي، وشاركه في الإعداد الباحثة والأستاذة في العلوم السياسية والخبيرة في السياسات الإسرائيلية «فيرجينيا تيلي». كان بإمكان الأمين العام تمحيص التقرير قبل سحبه، بالعودة الى مرجعيات مهنية أخرى، وبالعودة الى منظومة القوانين الإسرائيلية العنصرية الصادرة عن الكنيست، والى الممارسات الإسرائيلية على الأرض، والى السياسات المتبعة كالحصار ونهب الموارد، والى مئات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة بأكثرية مطلقة، وقرارات مجلس الأمن، والى تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية والدولية حول جرائم الحرب، والى شهادات المعذبين الفلسطينيين داخل وخارج وطنهم. كانت مرجعية الأمين العام المندوبة الاميركية في الامم المتحدة، واسرائيل التي قابلت التقرير بسيل من الشتائم وهي التي اعتادت على تقريع هيئات الامم المتحدة ومعاقبة كل من ينتقد احتلالها وتداعياته المأساوية على الشعب الفلسطيني. لم يعترض الأمين العام للأمم المتحدة «انطونيو غو تيريس» على التوثيق والاستقصاء الذي قدمه التقرير، واكتفى فقط بالتبرير الذي يقول ان «التقرير لا يعكس آراء الأمين العام»، ولم يتم التشاور معه قبل إطلاقه، مع ان التقرير جرى تقديمه قبل إطلاقه ولم يتم الاعتراض عليه او تقديم الملاحظات. وهذا يفسر حقيقة تعرض الأمين العام للضغوط والأنكى حقيقة استجابته للضغوط بكل بساطة. 
إن قبول أرفع منصب في الأمم المتحدة بضغوط الدولة المتنفذة وعدم اعتماده في مواقفه على ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي كمرجعية ملزمة له ولكل الدول الأعضاء، يدمر بقايا الثقة بالمنظمة الدولية ويصيبها في مقتل. ما حدث من  سحب  لتقرير الأسكوا وقبول استقالة الأمينة التنفيذية للمنظمة له مغزى كبير وخطير في هذا الزمان الرديء، فهو من جهة يعزز انتهاك العدالة والقانون بمستوى فاضح، ويضع دولة الاحتلال والفصل العنصري فوق القانون ويشجع المجتمع الإسرائيلي على الانخراط في العنصرية وممارستها بوجود مكافآت وحماية من هذا النوع، موقف يغلق كل الأبواب والمنافذ أمام استخدام هذا المنبر من قبل الشعوب المنكوبة بالاحتلال والعنصرية والاستبداد والديكتاتورية والنهب والجوع، ويطلق رصاصة الرحمة على دور الأمم المتحدة المفترض في تحقيق العدالة والانتصار لقيم الحرية وحقوق الإنسان.  
رسالة جديدة واضحة تقدمها الهيئة الدولية في القرن الحادي والعشرين للشعوب لسان حالها يقول: يا شعوب العالم استسلموا للأمر الواقع كعبيد جدد ولا تحلموا بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان. ولما كان عصر العبودية قد ولى وانتهى فإن تعطيل الهيئة الدولية والسيطرة عليها والتحكم في قراراتها وتطبيقاتها من قبل الدولة العظمى المهيمنة، يدعو الشعوب للبحث عن خيارات أُخرى لتجديد النضال من اجل الحرية والعدالة، ويؤدي من جهة أُخرى الى اندلاع دورات جديدة من العنف والإرهاب والانفجارات. وبقراءة أخرى فإن رسالة الأمين العام ومن خلفه إدارة ترامب، تقول للشباب : العدالة ميتة، اذهبوا الى داعش والقاعدة وبوكو حرام وطالبان ومن على شاكلتها من تنظيمات إرهابية.     
اثبتت تجربة «الأسكوا» وسحب التقارير، وإفراغ القرارات من مضمونها، واستخدام الفيتو في مجلس الأمن، ومعاقبة اليونسكو وكل المنظمات التي تقبل عضوية فلسطين فيها، واحتلال إسرائيل مراكز متناقضة مع طبيعتها في لجان الامم المتحدة كاللجنة القانونية المشرفة على تنفيذ القانون الدولي ورعاية المدنيين زمن الحرب، ولجنة تصفية الاستعمار مع انها الدولة الوحيدة التي تحافظ على صيغة الاستعمار القديم. هذه المواقف والسياسات تؤكد سيطرة الولايات المتحدة على هيئة الامم واستخدامها بما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها من الدول وبخاصة إسرائيل. الولايات المتحدة تملي على الأمين العام مواقفه، وتملي على دول عديدة ومن بينها لفيف من الدول العربية مواقفها، مستخدمةً الترهيب والترغيب وهو شكل آخر للإرهاب العالمي من صنف إرهاب الدولة. 
ريما خلف التي فتحت معركة كبيرة، بقيت وحدها على الجبهة الرسمية، فالدول العربية الـ 18 أعضاء «الأسكوا» بقيت في موقع المراقب، لم تدافع عن التقرير، ولم تعترض على سحبه حتى الآن. هذا الموقف الصامت يضعها في موقع الدول المضغوط عليها والمستجيبة للضغوط. وهذا لا يسر. ثم هل ثمة صلة بين سحب تقرير الابارتهايد الاسرائيلي، وسحب تقرير «الظلم في العالم العربي والطريق الى العدل»، لنصبح أمام معادلة جديدة سحب تقرير مقابل سحب تقرير، وفي السحبين يدفع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ثمناً مزدوجاً. ما لم تتخذ الدول العربية الأعضاء في «الأسكوا» وبقية الدول غير الأعضاء موقفا مسؤولا من أهم تقرير يسمي دولة الاحتلال بنظام فصل عنصري، فإنها تتشارك في المسؤولية مع الذين أمروا بسحب التقرير. البعض طالب الدول العربية الـ 18 باعتماد التقرير وطرحه على الجمعية العامة من اجل اعتماده كقرار دولي. ومتابعة الأخذ بتوصياته سيما إعادة إحياء لجنة الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة الفصل العنصري، وإعادة إحياء مركز الأمم المتحدة لمناهضة الفصل الفصل العنصري اللذين توقف عملهما عام 1994 عندما سقط نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي. وكانت الجمعية العامة قد ألغت قرارا اعتبر الصهيونية حركة عنصرية في العام نفسه، بالاستناد الى اتفاق أوسلو واستعداد إسرائيل لإقامة سلام مع الشعب الفلسطيني. لكنها سرعان ما أقامت شبكة من الطرق الالتفافية للفصل بين المستوطنات والشعب الفلسطيني، ثم استكملتها بإقامة جدار الفصل العنصري وبإزاحات سكانية هي شكل من أشكال التطهير العرقي. قليلون يعولون على قمة عمان الشهر الجاري لتصويب الموقف العربي من التقرير وما خلف التقرير. غير أن القمة العربية التي تأتي في أعقاب انتصار الثورات المضادة والأنظمة المستبدة، وفي غياب الضغوط الشعبية، قد لا تخرج عن المألوف. 
Mohanned_t@yahoo.com