في وجه العاصفة: الخيارات الفلسطينية في عالم مضطرب ...د.علي الجرباوي

الثلاثاء 07 فبراير 2017 03:37 م / بتوقيت القدس +2GMT
في وجه العاصفة: الخيارات الفلسطينية في عالم مضطرب ...د.علي الجرباوي



 

لا شكّ أن وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركية أحدث خلخلةً في مستقرّات السياسة الدولية كما عهدناها في فترة أحادية القطبية الدولية، أي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن. كثيرة هي المتغيرات والتبعيات التي سيشهدها العالم جرّاء ذلك؛ تموضعات وأحلاف وصراعات متجددة وجديدة ستؤدي إلى تحولاّت وتغيّرات في العلاقات الدولية. بالتأكيد، سيكون هناك نتيجة لذلك فائزون وخاسرون، وستكون النتيجة قاسية على الضعفاء والمستضعفين في بنية النظام الدولي.
سيكون لهذا الوضع الدولي الجديد المضطرب تأثيرات ضخمة على حاضر ومستقبل القضية الفلسطينية. وكما هو واضح من المؤشرات الراهنة، ستكون هذه التأثيرات سلبية وعميقة الضرر على المسعى الفلسطيني لاسترجاع الحقوق الوطنية المسلوبة، ولو بالحدّ الأدنى. ويجدر عند تحليل الوضع الفلسطيني الراهن أخذ العوامل التالية بالاعتبار:
أولاً، أن إدارة ترامب مؤيدة تأييداً كاملاً وغير منقوص لإسرائيل، ومعادية (أي ليست حتى حيادية) للحقوق الفلسطينية. وبالتالي فإن منطلقها تجاه معالجة القضية الفلسطينية سيكون إسرائيلياً. لن تضغط هذه الإدارة على إسرائيل، أو تفرض عليها رؤية مغايرة لرؤيتها، بل ستعمل معها لتحقيق الأهداف الإسرائيلية من أية تسوية سياسية قادمة. لن يجد الجانب الفلسطيني لنفسه نافذةً على هذه الإدارة الجديدة التي ستتعامل معه بفوقيّة وبالإملاءات. 
ثانياً، ستجد حكومة إسرائيل اليمينية لنفسها متنفساً من خلال إدارة ترامب الطيّعة، وستوسع مرتعها الاستيطاني في القدس والضفة. سيستمر بكثافة، والآن بيسر وسهولة أكبر، تغيير الوقائع على الأرض الفلسطينية، وصولاً إلى تطبيق رؤية الوزير المستوطن بينيت بضم منطقة ج (62% من مساحة الضفة) لإسرائيل، مخلّفاً كانتونات متفرقة ومزدحمة بالفلسطينيين للإدارة الفلسطينية التي لن تصبح دولة ذات سيادة.
ثالثاً، لن يجد الفلسطينيون في العالم ما يحتاجونه من تأييد رسمي وفعّال قادر على لجم التوجه الأميركي- الإسرائيلي القادم. فأوروبا تواجه مأزقها مع ترامب، ومشاكل اتحادها الداخلية، وموجة الهجرة إليها، وتصاعد الارهاب داخلها، وصعود اليمين المتطرف في دولها. وبالتالي، ستكون أوروبا منشغلة بذاتها، ولن تُسعف الفلسطينيين سوى بمساعدات مالية تتقلص تباعاً، وبيانات دعم وتأييد لن تجد لها مصرفاً. أما روسيا فهي في حملة غزلٍ مع ترامب ولن تحيد عن مواقفها التقليدية تجاه القضية الفلسطينية، في حين ستبقى الصين منشغلة بإقليمها. أما بقية العالم فخذ منه ما تريد من ثرثرة كليشهات الدعم المفرغ من أية مضامين.
رابعاً، لم يعد بإمكان الجانب الفلسطيني التعويل على الدعم والاسناد العربي الذي كان متماسكاً بالحدّ الأدنى، ووفرّ مظلة وقاية للقضية الفلسطينية لفترة سابقة مديدة. فقد انهار الإقليم على ذاته، وتحوّل التضامن العربي إلى اقتتالات وحروب فككّت دولاً، ووضعت دولاً في مواجهة أخرى. بالتالي، لم تعد المنظومة العربية قائمة، بل ولم يعد حتى للجانب الفلسطيني موطئ قدم في الكثير من الدول العربية. لذلك لا يجوز توقع الكثير من الدعم الفعلي من المحيط العربي، سوى المحدود بالكلام.
خامساً، يجب أن لا يغيب عن التحليل تأكيد حقيقة الواقع الفلسطيني الذاتي المهترئ، الذي يعاني من انقسام سياسي مزمن، ومن بنية سياسية متكلسة عفا عليها الزمن، ومن عقلية عشائرية ومناطقية طاغية، ومن تفشي ظواهر المحسوبية والفساد والبحث عن المصالح الفردية. مجتمع فقد مناعته الداخلية وأضحى مكشوفاً للنخر الإسرائيلي الذي عاث فيه إفساداً.
ليس صعباً مع كل هذه الوقائع الاستنتاج أن حلّ الدولتين لم يعد ممكناً. فالقوى التي تعمل ضده أقوى بكثير من التي تريده، كما أن الوقائع الاستيطانية على الأرض تُنبئ باستحالة تحققه. وبالتالي أُغلق الباب على التسوية التي كانت تُشّكل حتى الآن الحدّ الأدنى المقبول فلسطينياً.
كيف ستتم فلسطينياً مواجهة هذه المعضلة؟ ما هي الخيارات المتاحة، ومن منها الأكثر فاعلية للحفاظ على القضية الوطنية حيّة، غير مهملة أو منسيّة؟
هناك خمسة خيارات أمام القيادة الفلسطينية للتعامل مع المرير القادم، ويجدر عدم استثناء أي منها ابتداءً. بل يجب أن تبقى جميعاً في دائرة البحث والاختبار دون إقصاء، وخصوصاً الصعب منها. فقد يكون الأصعب هو الأكثر فاعلية في المواجهة، وإذا ما تمّ استثناؤه ابتداءً نكون قد حكمنا مقدّماً على نتيجة المواجهة بالخسارة المُحققّة.
أول هذه الخيارات هو "الجرجرة" وترك الوضع الراهن ينساب على حاله، والانتظار، على أمل أن تطرأ متغيرات خارجية مواتية في المستقبل يجد فيها الجانب الفلسطيني ثغرة تنفُسّ. هذا هو الخيار الأسهل والأكثر راحة، إذ لا يُطلب فيه من الجانب الفلسطيني أي شيء، لا ترميم للوضع الداخلي، ولا مواجهة مع أحد خارجياً. ترك الأمور للظروف، واستمرار الانشغال بالدّوامة الداخلية، وفي مقدمتها الصراع على سلطة تتقلص يومياً. يتغطى هذا الخيار بغطاء من حراك سياسي وهمي، وتوعدات بردود أفعال مزلزلة لا تجيء، مع استفحال غياب القدرة على مواجهة فعلية لتآكل الأرض وضياع المشروع الوطني.
أما الخيار الثاني، فهو أيضاً تقليدي، قيل فيه الكثير ولكنه لم يُفعّل سابقاً، وهو تصعيد المواجهة على الصعيد الدولي. يكون ذلك من خلال الانضمام لهيئات ومعاهدات واتفاقيات دولية، والتوجه لمجلس الأمن ومن ثم الجمعية العمومية لمحاسبة إسرائيل على استمرار احتلالها واستيطانها، ورفع قضية عليها أمام محكمة الجنايات الدولية. من الممكن أن يكون هذا الخيار فعالاً، ولكن المتوقع من ردّ الفعل الأميركي، والإسرائيلي، والغربي بشكل عام، هو ما يحول بين هذا الخيار وتفعيله فلسطينياً. باختصار، يخشى الجانب الفلسطيني ما يحمله التوجه لهذا الخيار من عقوبات خارجية أكيدة عليه، ولا يريد أو يقوى على مواجهتها. 
الخيار الثالث هو الانصياع للتسونامي الترامبي وموجاته المتلاحقة بقبول العودة للمفاوضات مجدداً، وبدون تحقيق أي من المطالب التي توقفت بسببها، وخاصة ما يتعلق باستمرار الاستيطان. هذا الخيار يشبه الخيار الأول في أنه يبتاع وقتاً ويؤخر المواجهة، علّ الظروف تتغير. ولكن المؤكد في تغيّر الظروف سيكون استمرار الاستيطان في ظل المفاوضات، وهذا هو الأساس المُقوّض للمشروع الوطني. سيكون هذا الخيار مفيداً فقط في حالة أن نتيجة المفاوضات محسومة منذ البداية بانهاء الاحتلال خلال فترة زمنية معروفة وملتزم بها دولياً، وهو الأمر الذي لن يتحقق في هذه الظروف الدولية. 
وقد تتلاحق الأحداث بسرعة وبدون ردّ فعل واضح من الجانب الفلسطيني، ما قد يؤدي إلى الانسياب للخيار الرابع، وهو في الواقع ليس خياراً وإنما أمر تحصيل حاصل قد يحدث على حين غرّة، إذ تفقد السلطة الفلسطينية سيطرتها وتندلع انتفاضة جديدة ضد الاحتلال. وقد لا يكون هذا الخيار هو المفضل للفلسطينيين، إذ سيُواجه بإجراءات إسرائيلية قاسية كتلك التي تبعت اندلاع الانتفاضة الثانية، وأدت إلى إعادة بسط السيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية على كامل الضفة. ولكن تصاعد وتيرة الاستيطان والقمع الإسرائيلي من ناحية، وإدارة ظهر عالم ترامب للمحنة الفلسطينية من ناحية أُخرى، وتلكؤ القيادة الفلسطينية في اتباع خيار آخر يعتبره الفلسطينيون فعالاً من ناحية ثالثة، قد يؤدي إلى ما لا بدّ منه: ردّ العنف بالعنف. 
أما الخيار الأخير، وهو الأصعب ولكنه قد يكون الأنجع، فهو التصرف فلسطينياً بعقلانية لاستنتاج ما لا بدّ منه من حقيقة أن لا إمكانية فعلية لتحوّل السلطة إلى دولة، فإسرائيل دمّرت حل الدولتين نهائياً، وتريد توظيف السلطة الفلسطينية ذراعاً تنفيذية لإخراج ذلك بأقل التكاليف الإسرائيلية. بناء عليه، تتخذ القيادة الفلسطينية قراراً علنياً بإعادة تسليم مفاتيح السلطة لسلطات الاحتلال، وتشرع بالقيام بعملية منظمة ومتدحرجة لتفكيك السلطة، مع الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية هيئة تمثيلية وقيادية للشعب الفلسطيني. هذا الخيار هو الذي سيضع الآخرين على المحك، عوضاً من أن يبقى الجانب الفلسطيني على المحك، إذ لا أحد يستطيع إرغام الفلسطينيين على أن لا يبقوا تحت الاحتلال، إلا إذا انتهى هذا الاحتلال. صعوبة هذا الخيار تكمن في عدم الثقة الفلسطينية بالذات، إذ يُدّعى مباشرة أن الفوضى الذاتية ستعم البلاد، ولن يملك الفلسطينيون القدرة على تحمّل أعباء غياب السلطة، وأن هناك قوى مجتمعية أُخرى تنتظر الإحلال مكان السلطة. وبالتأكيد يجب الاعتراف بأن منظومة مصالح قد نشأت مع وجود وحياة السلطة الفلسطينية، وقد يكون الحفاظ على هذه المصالح هو المعيق الأساس للاتجاه صوب هذا الخيار. 
على كلٍ، هذه هي الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين لمواجهة معضلة عالم ترامب المضطرب، ولا بدّ من اختيار مسار بناءً عليها. لذا من الواجب أن تُدرس هذه الخيارات بعناية وتفصيل شديدين، بحيث تُحسب الحسابات بعقلانية، وليس بغوغائية شعاراتية، من أجل خط مسار التحرك اللازم. ومن نافل القول التأكيد على ضرورة ترميم الأوضاع الداخلية بأسرع وتيرة ممكنة، إذ لا يمكن مواجهة الإعصار القادم إلا ببنيان سليم ومتين.