الشيخ راشد الغنوشي وحركة حماس: قراءة في المراجعات ..د. أحمد يوسف

الإثنين 16 يناير 2017 10:12 م / بتوقيت القدس +2GMT
 الشيخ راشد الغنوشي وحركة حماس:  قراءة في المراجعات ..د. أحمد يوسف



تقديم:

إن معظم الحركات الاجتماعية والسياسية تولد أولاً، لتعي بعد ذلك وجودها، فالتراكم التاريخي والواقع الموضوعي والإرادة الإنسانية، هي عوامل ثلاثة تشترك بنسب متفاوتة في إخراج الظواهر الاجتماعية من باطن الحراك التاريخي، ومن ثم يبدأ الوعي بالذات ينمو تدريجياً لمواكبة حجم الفعل والمساحة التي ستحتلها الظاهرة، والأدوار التي ستقوم بإنجازها. تلك هي قصة كل أصحاب المشاريع الإسلامية المعاصرة، وهذا ما سنتناوله أو نعرض لبعض جوانبه في حديثنا حول المراجعات لدي الإسلاميين.

في الثاني من يونيه 2016، عقد مركز التخطيط الفلسطيني بمقره في قطاع غزة ورشة عمل تحت عنوان "أثر المرجعيات الفكرية للحركات الإسلامية على القضية الفلسطينية"، وقد جاءت مساهمتي بتناول بعض متغيرات الساحة التونسية والتحولات الفكرية التي أوردها الشيخ راشد الغنوشي على خطاب حركة النهضة، وانعكاسات ذلك على الحركات الإسلامية في الوطن العربي، بما في ذلك حركة حماس.

لاشك أن طرح هذا الموضوع للنقاش هو حاجة وطنية، وقراءة بهدف استشراف تأثيرات المحيط العربي على الحركة الإسلامية، التي تتصدر - اليوم - مع قوى وطنية أخرى مشروع الرؤية والفعل المقاوم على أرض فلسطين.

في الحقيقة، جاءت تصريحات الشيخ الغنوشي حول ضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي في الحركة الإسلامية مفاجئة لدى الكثير من الإسلاميين في الوطن العربي. وبحكم معرفتي الشخصية بالشيخ الغنوشي على مدار أكثر من ثلاثة عقود، فلم تحمل هذه التصريحات بالنسبة لي عنصر المفاجئة، فالرجل كمفكر وقيادي وداعية بمواصفات كاريزمية عالية عرفته منذ منتصف السبعينيات عندما كنت طالباً جامعياً في القاهرة، من خلال مجلة المعرفة التونسية؛ وهي مجلة إسلامية ثقافية فصلية تمثل صوت الجماعة الإسلامية، وهي بأقلام كتَّابها تدافع عن صورة الإسلام وأصالته الحضارية في تونس، وكان الشيخ الغنوشي أحد أعمدة الكتابة فيها، وكانت تصلنا بعض أعدادها عبر طلبة البعوث من المغرب العربي في جامعة الأزهر.. ثم كان اللقاء الأول - وجهاً لوجه - في بريطانيا أوائل التسعينيات، وقد تكررت اللقاءات بعد ذلك معه في أمريكا، حيث كان يأتي مشاركاً في المؤتمرات السنوية التي تعقدها مؤسساتنا الإسلامية هناك بشكل دوري أو سنوي، وكانت آخر تلك اللقاءات به هي التي جمعتنا في تركيا عام 2011، ثم في تونس عام 2012.. فالرجل من حيث أفكاره ومواقفه مألوف لكل متابع في الشأن الإسلامي، ولا يشكل فيما يطرحه من أراء أو ما يطلقه من تصريحات أي غرابة لي أو مفاجآت.

لقد تابعنا ونحن في أمريكا متغيرات الساحة التونسية في الثمانينيات، حيث أسس الشيخ الغنوشي حركة الاتجاه الإسلامي، التي تبنت رؤية حركة الإخوان المسلمين في التغيير والإصلاح، فيما خرج تكتل آخر ابتعد عن مسلك المواجهة مع النظام عُرف باسم "الإسلاميون التقدميون"، بقيادة د. حميدة النيفر، والمحامي والناشط الحقوقي صلاح الدين الجورشي.

إن تطور الساحة الفكرية في تونس كان مشهوداً لنا؛ لأن هناك أعداد لا بأس بها من طلاب الماجستير والدكتوراه كانوا يدرسون معنا في الجامعات الأمريكية، وبعضهم كانوا ملتزمين معنا ضمن تنظيم حركة الإخوان المسلمين في تلك القارة.

إن المسيرة الحركية الطويلة للشيخ الغنوشي والإخوة التوانسة مألوفة لدينا بشكل كبير، فهم ناس متنوعين في مجال المعرفة، ولديهم حسٌّ ثقافي ووعي سياسي وفلسفي متميز وأدبيات فكرية عالية.

لقد ذهب الشيخ راشد الغنوشي للدراسة في مصر أولاً، ثم غادرها إلى سوريا في السبعينيات، حيث درس الفلسفة هناك، وتعرَّف خلال فترة وجوده في سوريا على فكر جماعة الاخوان المسلمين، وعاد لتونس بعد أن أنهى دراسته ليرفع شعارات الإخوان المسلمين وفكرهم، وقد أدت هذه الرؤية والقناعة الجديدة للشيخ راشد إلى حدوث تحولات كبيرة داخل الساحة الإسلامية في تونس، وتسببت في خروج بعض قياداتها وكوادرها، وتأسيس تيار آخر هجر السياسة واكتفى بالتراث. 

في المرحلة الثالثة من التحولات التي مرت بها الحركة الإسلامية في عهد "بن علي" حاول الشيخ الغنوشي التكيف سياسياً مع النظام، وقام بتغيير اسم الحركة إلى النهضة، ولكنه اكتشف بعد أقل من سنتين بأن "بن علي" ليس بالرجل الذي يمكن الوثوق به، حيث قلب لهم ظهر المجن، وفاجئهم بحملة من الاعتقالات الواسعة، اضطر معها الشيخ الغنوشي لمغادرة البلاد.

أقام الشيخ الغنوشي في الجزائر ثم ارتحل منها إلى السودان بعد أصبح محكوماً عليه في بلاده بالإعدام. تقدم بعد ذلك بطلب اللجوء إلى بريطانيا، حيث منح الإقامة هناك كلاجئ سياسي، إلى أن عاد إلى بلادة بعد نجاح الثورة وسقوط نظام بن على في عام 2011.

الغنوشي: مدرسة في الاجتهاد والفكر الإسلامي

 إن الشيخ الغنوشي هو رجل متقدم في فكره الديني والإنساني، وهو أستاذ للفلسفة الإسلامية، وصاحب تجربة حياة امتدت لأكثر من 25 سنة من الإقامة في أوروبا، والتي فتحت له آفاقاً واسعة للاحتكاك بالقيادات الإسلامية من بلدان عربية وإسلامية مختلفة، كما منحته فرص اللقاء والتواصل مع شخصيات سياسية وفكرية في الغرب، وهيئت له تلك الإقامة الطويلة كذلك المشاركة في الأنشطة الكثيرة والمؤتمرات واللقاءات الخاصة، التي تعقدها المؤسسات الإسلامية المنتشرة هناك. وقد نشر الشيخ الغنوشي العديد من الكتب والدراسات، التي أشادت بها زعامات وقيادات في هذا العالم. ففي عام 2012، شاهدت خلال حضوري لملتقى خاص في استانبول شاركت فيه أكثر من 60 شخصية إسلامية قيادية كان من بينهم الشيخ الغنوشي، حيث أشاد بفكره وكتاباته د. أحمد داوود أوغلو؛ وكان وزيراً للخارجية آنذاك، وقال له: " يا شيخ راشد.. منك تعلمنا الكثير، ولكتاباتك الفضل في بعض أفكار حزب العدالة والتنمية، وقد قمنا بترجمة بعضها للغة التركية".

في الحقيقة، شكَّل كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" للشيخ الغنوشي إضافة كبيرة للأديبات الفكرية لحزب العدالة والتنمية وما اختطوه من مبادئ وسياسات.

إن من المعروف عن الشيخ الغنوشي أنه رجل متنور ومنفتح على الجميع، وهو مفكر إسلامي غير متعصب، وأتذكر أنه قال لي في إحدى اللقاءات معه في التسعينيات: يا أخ أحمد.. إذا ما استلمنا الحكم عبر العملية الانتخابية، ثم تبين لنا بعد فترة أن الشعب لا يريدنا، فسوف نترك الحكم، ونعطي فرصة لغيرنا أن يتقدم لإدارة شؤون البلاد، ثم نحاول في المرات القادمة إقناع الشارع بنا، من خلال تقديم صورة أحسن ومسيرة سلوكية وبرامج حكومية أفضل.

 إن الشيخ راشد الغنوشي كان إضافة إلى موقعه كرئيس لحركة النهضة هو عضو قيادي سابق في التنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين، وكان من بين قيادات التنظيم الذين أشاروا على حركة حماس بالابتعاد عن تشكيل الحكومة، والاكتفاء بوجودهم كأغلبية في المجلس التشريعي.. وفي نوفمبر 2006، التقيته في العاصمة البريطانية لندن مع مجموعة من قيادات التنظيم العالمي، وقد أكدوا لي ذلك .

إن التصريحات التي خرج بها الشيخ الغنوشي في مؤتمر حزب النهضة الأخير تعتبر "تسونامي" في الفكر الإسلامي، وفي نظرة الناس لرؤية حركة الاخوان التاريخية تجاه عملية الإصلاح والتغير. إن ما قاله الشيخ الغنوشي وطرحه من تحولات في الفكر والرؤية كان من العيار الثقيل، وكان وقعه ربما صادماً على أسماع الكثير من الكوادر الإسلامية في العالم العربي، ولكن وهذه هي الحقيقة أننا لم نشهد قيادات اسلامية بارزة وذات وزن فكري وحركي اعترضت أو حتى علَّقت بشكل سلبي تجاه ما طرحه الشيخ الغنوشي، وذلك لوزن الرجل التاريخي في قيادة الحركة الإسلامية، ولرجاحة عقله وسعة تجربته النضالية الطويلة.

بصراحة، إن الشيخ راشد يعتبر مدرسة فكرية تنويرية متميزة، وأنا وجيلي من شباب الإخوان في الثمانينيات والتسعينيات قد تعلمنا الكثير منه، وقد توطنت في داخلي قناعات بأن هذا الرجل هو قائد عظيم، ويمتلك من كاريزما الزعامة الكثير، وهو ينظر ببصيرته بمنظار الأمة الكبير، وليس بمنظار الحزب وفضائه المحدود، وأن سقفه فيما يفكر فيه من حسابات هو الوطن وليس التنظيم، وكما يقول الأتراك بشكل مجازي: إن الدولة تتقدم خطوة على الدين، لإظهار قداسة الدولة ومكانتها العالية لدى مواطنيها.

إن الشيخ راشد الغنوشي أكد من خلال مواقفه وتصريحاته بأن استقرار تونس كدولة أهم عنده من حزب النهضة؛ لأنه طوال حياته إنما كان يعمل من أجل الوطن، وتحقيق الاستقرار لبلده تونس، فالنهضة كما يراها اليوم هي حزب سياسي ديمقراطي وطني مرجعيته القيمية هي الإسلام والقيم الحديثة والدستور التونسي الذي يعتز بالإسلام.. فالنهضة الجديدة هي نهضة متخصصة في العمل السياسي؛ أي تريد أن تمارس عملاً إصلاحياً انطلاقاً من الدولة ومن مؤسسات الدولة .

إضاءات الغنوشي: الرؤية والتنوير

 لا شك بأن تداعيات تلك التصريحات التي أطلقها الشيخ راشد الغنوشي في المؤتمر العاشر للحركة سيكون لها أثر كبير – عاجلاً أم آجلاً - على جموع الإسلاميين في المنطقة.

ففي ظل المتغيرات الدراماتيكية التي تجري في العراق وسوريا وليبيا وشمال سيناء بسبب المواجهة الدامية مع تنظيم الدولة (داعش)، والملفات المفتوحة مع الإرهاب الذي يحمل عناوين إسلامية، وحملات الاستنفار العالمي لملاحقته، ووضع الإسلاميين في دائرة  الملاحقة والرصد والاستهداف لدى دول المنطقة والأجهزة الأمنية في الغرب، فإن الإسلاميين جراء سياسات التحريض والتشويه والتشهير سيضطرون لإجراء مراجعات للتخذيل عن أنفسهم، والعمل بكل فطنة وذكاء في محاولة النجاة بقافلتهم الدعوية، وما تبقى لهم في مشهد الحكم والسياسة، وستكون هناك – بالتأكيد - تحولات للتكيف مع متغيرات الحياة السياسية، التي أعقبت تراجع الحالة الإسلامية وانتكاستها بعد الفشل الذي لحق بحركة النهوض، وأطاح بثوراتها في العديد من الأقطار العربية.

نعم؛ خلال السنوات الماضية حدثت بعض المراجعات للإسلاميين في عدة بلدان عربية، وقد أدى بعضها إلى انشقاقات داخل بنية التنظيم الواحد، كما شاهدنا في الأردن وليبيا والسودان والجزائر، وترتب على ذلك نشوء أحزاب إسلامية جديدة، عملت على التعايش مع الأوضاع السياسية القائمة، بهدف الحفاظ على كياناتها وتطوير مكانتها داخل منظومة الحكم والسياسة، وقد أعلن بعضها عن فك الارتباط بحركة الإخوان المسلمين، كما سمعنا - مؤخراً - في المغرب واليمن، وقبل ذلك في الأردن والسودان.  

باختصار: إن ما يحصل للإسلاميين بعد الربيع العربي - كما يقول المنصف المرزوقي -  هو ما جرى للشيوعيين في السبعينيات، عندما ظنوا أنهم سيملكون العالم، ولكن في بداية التسعينيات انهاروا مرة واحدة.

إن علينا كإسلاميين أن نعترف بأننا قد وصلنا إلى حالة من الانتشاء مع الربيع العربي، حتى أن البعض أخذه الخيال بعيداً للاعتقاد بأن "دولة الخلافة غدت قاب قوسين أو أدنى". وبعد أن انتكست الأمور، أصبح هناك من يقول: إن الاسلام السياسي كفكرة للتطبيق هي في طريقها للزوال.!! وهذه كلها تبدو - في الحقيقة – مجرد شطحات أو تقديرات موقف، وسوف تثبت الأيام دقةَ ما فيها من صحةٍ أو خطأ.

 لا شكَّ أننا اليوم نشعر جميعاً بالإحباط بما في ذلك حركة حماس؛ لأن الدمار الذي حلَّ بالمنطقة كان المسؤول عنه يرفع لافتات إسلامية؛ سواء أكنا متفقين معه أو مختلفين. نحن – بلا شك – قد تراجعنا كأمة إسلامية إلى عدة عقود للوراء، وحتى نؤمِّن مشروعنا للتحرير كفلسطينيين فإننا ربما نحتاج إلى عقد أو أقل من الزمان، حتى تنعدل الأمور، ونصل للحالة التي كانت عليها كيانات الأمة متوهجة في بدايات الربيع العربي .

 بالتأكيد، إن حركة حماس سوف تجري بعض المراجعات على فكرها الحركي والسياسي، بالرغم من أنهم لا يفضلون استخدام كلمة مراجعات، وهذا المصطلح غير مرغوب في التداول بين الأوساط الإسلامية عموماً؛ لأن له دلالات سلبية في الثقافة العربية. نعم؛ هو تعبير يحمل مضامين إيجابية في الثقافة الغربية، ويتم التعاطي معه غالباً في كل المؤسسات ذات الطبيعة الحزبية في أوروبا وأمريكا.

إننا في داخلنا نقول أحياناً إن من الضرورة أن نجلس كمفكرين وكوادر حركية لتدارس هذه العشرية من سنوات وجودنا في مشهد الحكم والسياسة، حيث حدثت الكثير من التحولات خلالها.. بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة (العصف المأكول- 2014)، كتبت ورقة من حوالي 20 صفحة في سياق المراجعات، وجلسنا مع بعض الإخوة من النخبة الفكرية وتناقشنا فيها، وكان للبعض ملاحظات - وأيضاً إضافات - ربما أسهمت في إثراء ما تمَّ طرحه، ولكننا نرى أن توطين مثل هذه الأفكار في أذهان كوادر الحركة وقياداتها يحتاج إلى حوارات موسعة، بهدف معرفة أين أصبنا، وأين أخطأنا؟

إن مثل هذه المراجعات لا بدَّ أن تتم؛ شئنا أم أبينا، إن عاجلاً أم آجلاً، حيث  نحن بتنا ندرك بأن المشروع الاسلامي أخذ يشهد تراجعاً، ويعاني من فقدان الثقة وحملات الاستهداف والشيطنة، واتهام الإسلاميين وحركة حماس بالتطرف والإرهاب.

 إن من الجدير ذكره القول بأن نجاح تجربة الشيخ الغنوشي في رؤيته الجديدة بالفصل بين الدعوي والسياسي، ستدفع إسلاميين آخرين لأن يحذو حذوه؛ لأن خطاب الفصل والتخصص أصبح ينادي به البعض بصوت مسموع، وقد شاهدنا قبل عدة أعوام من قام بذلك في المغرب واليمن والأردن، وهناك اليوم في مصر من يطالب بذلك، وتكفي الإشارة لما كتبه د. عمر دراج، الذي كان وزيراً للتخطيط في حكومة محمد مرسي، حيث صرَّح في مقال له بعنوان: "مراجعات سياسية.. بين الدعوي والحزبي" ما أطرحه هنا، هو أن الحزب الإسلامي ذو المرجعية الإسلامية الوسطية لا ينبغي بالضرورة أن يرتبط تنظيمياً بالجماعة، بل أن هذه المرجعية، والمرونة والسعة الكامنة في الشريعة الإسلامية، تسمح بنشوء أكثر من حزب سياسي بنفس المرجعية، لكل منها اجتهاداته السياسية التفصيلية، ويمكن أن تتحالف أو تتنافس طبقاً للظرف السياسي، ولا يشترط بالضرورة أن ينضم أعضاء الجماعة لواحد منهم بعينه، لأنه ببساطة لا يوجد ما يسمى "حزب الجماعة" أو "الذراع السياسي للجماعة"، ناهيك على أنه لا يشترط أصلاً انضمام العضو لأي حزب سياسي إن لم يكن مهتماً بالعمل الحزبي التنافسي".

إن التجارب الإسلامية الناجحة للفصل بين السياسي والدعوي، والتي شاهدناها في المغرب تشجع على هذا التوجه، وكذلك فإن نجاحات حزب العدالة والتنمية في تركيا تشجع هي الأخرى على سلوك هذا الدرب .

لقد قدمت مقترحاً في عام 2006 لحركة حماس حول ضرورة إنشاء حزب سياسي أو تحول ذراعها السياسي "التغيير والإصلاح" لحزب سياسي، ولكن لم يكن هناك قناعة بالفكرة أو حتى استحسان لها، وقمت في عام 2011 بنشر مقال بصحيفة الحياة اللندنية يحمل نفس الفكرة، ولكن لم يعلق أحد سلباً أو يوجه لنا اتهاماً فاستبشرنا خيراً. وعاودت الكَّرة بجراءة أكبر، وصرت أتحدث بها في المجالس، بل كتبت مقالاً مطولاً عام 2015 أطرح فيه فكرة الفصل بين الدعوي والسياسي والعسكري!!

ومع قناعتي المطلقة بالفكرة، وضرورة عدم إشغال كل مكونات الحركة بمشهد الحكم والسياسة، والاستفادة من تجارب شعوب عربية وغربية أخرى حققت الفصل والنجاح والتمكين، إلا أن فضاء الرؤية في ساحتنا ما زال ضبابياً، وهناك غالبية تتمنع، وإن كان الكثير من الكوادر الشبابية عالية الثقافة تطالب بمثل ما ندعو إليه .   

ختاماً: نحن والغنوشي إلى أين؟

إن الشيخ الغنوشي هو اليوم في مسيرته الدعوية والسياسية كمثل من يحمل القنديل؛ مصدر رؤية وإلهام للكثير من الإسلاميين، ونحن منهم، فبقدر نجاح تجربته والتمكين لها يكون النموذج والاقتداء.

نعم؛ سيمضي الشيخ الغنوشي بتجربته السياسية إلى آخر المشور، وسيوظف كل ما أوتي من حكمة وفطانة سياسية وحركية وعلاقات دولية لتنجح تجربته وتلقي بظلالها الوارفة على الآخرين، وسيدرك الكثير من قيادات العمل الإسلامي أن الرجل كان دائماً سابقاً لزمانه، وأنه صبر وظفر، وهو يمنحنا الأمل بأن التغيير قادم، ولكنه التغيير القائم على فلسفة "المشاركة لا المغالبة"، وهي محطة تتطلب لبناء الوطن القناعة والإيمان بالدولة المدنية، التي يتعايش فيها الجميع كمواطنين تحت كنف الدستور والقانون.

إن على الإسلاميين برمجة ذهنياتهم على استيعاب الآخر والتعايش مع الجميع؛ لأن الدين جاءت رسالته رحمة للعالمين، ونحن في الساحة الفلسطينية بحاجة لجهد الجميع في الداخل والخارج، والمراجعات ستعطينا مؤشرات كافية لتلمس الطريق بدل الغرق في الحالة التي عليها الكثير من الإسلاميين في دول المنطقة.

ففي تقييمه لأوضاع الحركة الإسلامية، يقول د. محمد أبو رمان: إن "الحالة التي عليها الإخوان ليس في الأردن فقط، بل في الجزائر ومصر والعراق وسورية، تشي جميعها بأنّ الجماعة تعيش حالة من التمزّق والانقسامات الداخلية والخلافات الكبيرة، سواء اتخذت طابعاً مؤسسياً أو إعلامياً وشخصياً وسياسياً؛ بينما نجد الدول والمجتمعات التي عملت على تطوير مشروعها، والتحلّي بقدر كبير من البراغماتية والمرونة في التعاطي مع المشهد السياسي، استطاعت تجاوز الأزمات الداخلية بدرجة كبيرة، كحالة حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في كلٍّ من تركيا والمغرب".

إن من المفارقات القائمة اليوم في الساحة الإسلامية هو أن معظم تياراتها الحركية في الدول العربية تتطلع لنموذج حزب العدالة والتنمية (AK Party)، الذي أسسه رجب طيب أردوغان عام 2001، حيث بهر الجميع بنجاحاته المتميزة على مدار اثني عشر عاماً، ولكن لا أحد منهم يفكر أو يسأل: كيف تمكن هذا القائد والزعيم من تحقيق هذا النفوذ السياسي الكبير، وبلغ هذه الحالة من الازدهار والاستقرار داخل بلاده؟ وكيف وصل بتركيا إلى هذه المكانة العالية إقليمياً ودولياً.؟

إن على جميع الإسلاميين في دول المنطقة العربية، وخاصة إخواننا في مصر والأردن وفلسطين، العمل على دراسة حجم الخطوة التي قام بها أردوغان ورفاقه للتحول من خطاب الإسلام السياسي وشعاراته القائمة على العنتريات وعزف الحناجر إلى تبني العملية الديمقراطية، والتعاطي مع فكرة الدولة المدنية وفرضياتها التي تبسط أجنحتها في مشهد الحكم والسياسة.

هنا – بلا شكَّ – تكمن أسرار التجربة، والمدخل لفهم  كل هذه المعجزات، حتى تتحقق لنا عملية التواصل وتحولات الرؤية من نهضة الغنوشي إلى مقاومة وحكم حماس.