تركيا: سياسات مضطربة تسقط نموذج محتمل .. د. جمال الفاضي

الإثنين 16 يناير 2017 11:40 ص / بتوقيت القدس +2GMT



قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم ، كانت تركيا تعيش أسوأ الأزمات الاقتصادية والسياسية، إذ كان حل مشاكل اقتصادها يعتمد على وصفات المؤسسات الدولية دون جدوى، فيما كانت أزمات السياسة تتسبب بتغيير وتبديل واستقالات حكومات بشكل دوري يقود إلى تدخل المؤسسة العسكرية باستمرار لحماية الدولة, ولكن مع وصول حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002، في ظل هذه الظروف الصعبة، إلا أنه نجح في إطلاق مسيرة اقتصادية غيرت وجه تركيا، إذ اتجهت حكومة العدالة والتنمية إلى وضع خطةً لتطوير أهم القطاعات الاقتصادية من خلال تعزيز القدرة التنافسية للصناعات التركية والعمل على خلق فرص التوظيف للشباب وتقليل نسبة البطالة، وتعزيز القطاع المالي، وفتح المجال واسعًا أمام الاستثمارات الخارجية، وهي خطوات لم تقتصر فقط على وضع حلول إبداعية لأزمات الاقتصاد التركي المركبة، بل قادت نحو تحقيق صعود غير مسبوق حتى عام 2006، وهو صعود أسس لمعجزة اقتصادية استمرت حتى نهاية عام 2011، من حيث نسبة نمو وصلت إلى (8%)، وتحسين قيمة العملة التركية، وارتفاع مستوى دخل المواطن، وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بما يعادل أربعة أضعافه، دفع المحللين لاعتبار تركيا قوة صاعدة لامحالة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

وفيما يتعلق بالسياسة والعلاقات مع دول الجوار، فقد أسس حزب العدالة والتنمية سياسته الخارجية على الأفكار الرئيسية لأحمد داوود أغلو، رئيس الوزراء التركي السابق ووزير الخارجية، وأحد أهم المنظرين في حقل العلاقات الدولية، والتي قامت على مبدأ العمق الاستراتيجي من خلال تصفير المشكلات الخارجية للدولة التركية، وصناعة نموذج إقليمي يعتمد القوة الناعمة يشكل حالة جذب لدول الجوار.

لكن اليوم ونحن في بدايات عام 2017 ، ومع زيادة التدخل التركي في شؤون دول المنطقة مع بداية ما يسمى الربيع العربي، أدى لانهيار النموذج التركي الذي تم الترويج له كثيراً عبر مجموعة من المحللين والمفكرين كنموذج يمثل رابط بين الإسلام والحداثة، فها هو "رجب طيب أردوغان"، وقد أصبح ديكتاتور تركيا الذي يسعى لتحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي يتيح له مزيداً من إحكام قبضته السلطانية العثمانية والديكتاتورية على السلطة، منهياً حلم طويل يقارب أربعة عقود منذ "الرئيس تورغوت أوزال" من جعل تركيا النموذج الرائد والوحيد في العالم المسلم لدولة تحديثية ديموقراطية.

فيما أوضاع الاقتصاد التركي أخذة في التراجع منذ عام 2012، حيث بدأت تقارير غير رسمية تتحدث عن نسبة بطالة وصلت إلى (30%)، فضلا عن تراجع الاستثمارات الخارجية، وتراجع السياحة بدرجة كبيرة. فيما تسببت أحداث قمع انتفاضة "ساحة تقسيم" في اسطنبول 2013 ، إلى اعتبار أن تركيا لم تعد نموذجاً يحتذي في الديمقراطية والتسامح والاستقرار الداخلي، وهي أحداث أنهى التعامل معها ومعالجتها مصداقية الادعاءات حول التماسك والتعايش بين ألوان الشعب التركي المختلفة.

وكذلك، تسبب الموقف التركي من التحولات السياسية في سوريا والتدخلات في العراق وليبيا لدعم الميليشيات المسلحة نقطة ضوء حمراء مع سياسات تركية بنيت على أساس تصفير المشكلات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو أمر انطبق على دعم تركيا لوصول التيارات الدينية للسلطة في فلسطين ومصر وتونس، حيث أدى ذلك لفقدانها جانباً كبيراً من تأييد الجماهير العربية، بل والنظر إليها بعين من الريبة والشك.

و خلافاً للتحليلات التي تناولت وتحدثت عن دور تركي مهيمن في المنطقة والسعي لأمجاد الأجداد في بلاد الشرق، فقد اتبع "اردوغان" سياسات متخبطة وتبنى مواقف صبيانية، ولم يعد له مشروع "سلطان عثماني"، كما كان يطمح، بل أصبح مشروعه الوحيد هو الاحتفاظ بالسلطة على جمهورية تركيا فقط، ولربما أُرغِم لاحقا نتيجة علاقاته المتوترة مع روسيا على بدء مرحلة الدفاع عن استمرار وحدة تركيا التي ساهمت سياساته خصوصاً في سوريا من تعريضها لخطر الحرب بصورة أو بأخرى.

وفي خاتمة القول، يُشكل الواقع الاقتصادي الصعب والوضع الداخلي المأزووم، والعلاقات الخارجية المضطربة الذي تمر به تركيا، الامتحان الأصعب لحكم العدالة والتنمية، فبدلاً من أن يكون النموذج الذي تطلع الجميع للاقتداء به، أصبح اليوم ونتيجة سياسات رعناء قوضت هذا النموذج ووضعته على حافة الانهيار.

تركيا اليوم، ليس تركيا الأمس، ولن تكون تركيا الغد، والتحدي اليوم هو وقف حالة الانهيار أكثر من البحث عن تماسك نموذج مصطنع.