تحديات أمام الثقافة الفلسطينية ...جميل هلال

السبت 14 يناير 2017 02:04 م / بتوقيت القدس +2GMT
 تحديات أمام الثقافة الفلسطينية  ...جميل هلال



بعد تفكيك الحقل السياسي الفلسطيني الذي شيدته وهيمنت عليه منظمة التحرير الفلسطينية حتى لحظة تهشيمها من السلطة الفلسطينية التي أقامها اتفاق أوسلو بات على الحقل الثقافي الفلسطيني تحديات كبرى.    وهنا يجب التمييز أن بين الحقل السياسي (كحقل تفعل وتتنافس فيه وتحدد تخومه قوى سياسية وطنية) وبين الحقل الثقافي حيث يتم انتاج وتجديد الثقافة بأبعادها المختلفة  من أداب وفنون وفكر وتاريخ وتراث  شعب.  ولأن الحقل الثقافي يتمتع، إلى حد  كبير،  باستقلالية  عن  الحقل السياسي فإن تفكك الأخير لا يستبعه، بالضرورة، تداعي الأول. وهذا ما جرى  بالضبط في العام 1948 حيث تفكك الحقل السياسي الوطني (على أثر هزيمة الحركة السياسية الفلسطينية وتبعثر قيادتها)، وحافظ الحقل الثقافي الفلسطيني على حيويته وسارع إلى تجديد نشاطه، وساهم لاحقا في إعادة بناء حقل سياسي وطني جديد.  والآن تتوفر مؤشرات هذا الحقل ينهض بحيوية جديدة  بعد تفكك الحقل السياسي الفلسطيني إلى مكوناته الجغرافية-السياسية (الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1948،  الضفة الغربية،  قطاع غزة، التجمعات في الشتات والهجرة). وهنا أنا لا اخص الثقافة "الرفيعة" (أي الثقافة لموجهة لفئة محدودة من الجمهور كالرواية والشعر واللوحة التشكيلية) فقط،  بل أشمل الثقافة الموجهة لجمهور واسع  كالأفلام السينمائية والفيديو والأغاني والتراث الشعبي وقصص الأطفال والكتب المدرسية وما يجري تداوله على  الوسائل الإلكترونية.

إدامة حيوية الثقافة الفلسطينية بحقولها المختلفة وبمضمون ديمقراطي  تقدمي يحتاج إلى رؤية.  وهو ما يحاول مقاربته هذا المقال مع الإدراك الكامل أن سؤال الثقافة من أكثر الأسئلة تعقيدا وجدلا بحكم تنوع  فضاءاته وأدواته، وحاجة كل حقل (من آداب وفنون، ومجالات فكر) إلى  موجهات وإمكانيات وأدوات مخاطبة وإيصال لجمهور غير متواصل جغرافيا وغير موحد في الذائقة والاهتمام.  ما تتناوله هذه المداخلة لا يتعدى الإشارة إلى أبرز عنوانين  التحديات التي تواجه الثقافة الفلسطينية في الزمن الراهن، انطلاقا من الشرط الفلسطيني  المنغرس في فضاء إقليمي ودولي منشغل بعيدا عن المسألة الفلسطينية. وهي تحديات مركزها حراسة وإثراء الرواية الفلسطينية - كحكاية مستمرة لشعب تعرض وما  زال لظلم تاريخي  ونكبة مواظبة - من التشوية والتزوير والاختزال، وهذا أمر  يستوجب إعادة الاعتبار إلى المحرك العلماني الديمقراطي التقدمي  للثقافة الفلسطينية العلماني ببعده الحضاري العربي والإنساني. هذا يستدعي دحض مركبات الذهنية الأصولية الدينية لما تختزنه تلك الذهنية من عداء  للتعددية الأثنية والدينية الطائفية  والفكرية و القومية ومن تمييز ضد المرأة ولكل ما لا يمتثل لمخيلتها التنميطية. و يترابط  هذا التفكيك مع  ضرورة كشف  تداعيات العولمة النيوليبرالية  المنسجمة إلى حدد بعيد مع توجهات الأصولية الدينية السلفية من تسويغ  للإفقار والتهميش ومن  لامبالاة لانكشاف  فئات واسعة من المواطنين.   و يقع على العاملين في الحقل الثقافي توليد روابط ثقافية ومعرفية وتنظيمية (حيث يمكن) بين مكونات الشعب الفلسطيني  كأفراد و كمؤسسات ونشاطات، ومن انتباه لما يروّج من مفاهيم وقيم  في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وفي مؤسسات التعليم  بمستوياتها المختلفة.

  حراسة الرواية التاريخية الفلسطينية

   لعل عنوان التحدي الأبرز والدائم للحقل الثقافي الفلسطيني هو حراسة الرواية التاريخية الفلسطينية، بما هي سردية  متواصلة لما سبق النكبة ولما تلاها وتشمل كل ما تعرّض (ويتعرض) له وما قاومه (ويقاومه) الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها. أهمية هذا التحدي تتأتى من أن الحكاية الفلسطينية باتت تواجه  حالات واسعة من الصمت والإنكار والتزييف والتشويه طالت جغرافيا وتاريخ وديموغرافيا وتراث فلسطين وشعبها.  الحقل الثقافي هو الأقدر على رواية، بأدوات وسبل متنوعة وفعّالة، ما واجه ويواجه الشعب الفلسطيني في مواقعه المختلفة من تطهير عرقي وتهجير وتنكيل وتمييز وحروب واجتياحات و حصار وتجويع، وما أبدعه  ويبدعه من أشكال مقاومة وصمود ومن تمسك بقيم  انسانية. 

في مسيرة الحكاية الفلسطينية الطويلة ما يلهم ويستنفر الروائي والقاص والسينمائي والشاعر والمؤرخ والفنان التشكيلي والمسرحي  والمصور  والموسيقي والمغني والمهتم بالتراث الشعبي والباحث  والصحافي وغيرهم من الفاعلين الحقل الثقافي الفلسطيني.  لقد تولت  وتتولى  مؤسسات بحثية وفكرية فلسطينية عديدة، مثل مركز الأبحاث الفلسطيني،  ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومؤسسة السينما الفلسطينية، ومركز السكاكيني، و متحف محمود درويش، ومؤسسة مواطن (المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية)، ومدار (المركز الفلسطيني للدراسات الفلسطينية)، ومدى الكرمل، ومؤسسات أخرى عديدة بما في ذلك تلك التي تنشط إلكترونيا،  دحض الرواية الصهيونية (بما هي رواية استعمارية استيطانية تستند إلى الأسطورة والخرافة)،  وإثراء الرواية الفلسطينية.  وهي مهمة تولاها ويتولاها أفراد أيضا ولا تنحصر في مؤسسات ومراكز . ويكفي للتدليل على ذلك  ما صدر من روائيين تناولت أعمالهم جوانب من الحكاية الفلسطينية في السنوات القليلة الأخيرة ونالت انتباه النقاد، منهم (كأمثلة وليس كحصر)؛  إلياس خوري و إبراهيم نصرالله، و ويحيى يخلف وربعي المدهون، وعاطف أبو سيف ورضوى عاشور. هذا دون ذكر ما صدر من دواوين شعر ومجموعات قصص قصيرة و معارض فنية و وأعمال مسرحية وموسيقية وأغاني وأفلام ونشاطات لفرق فنون شعبية ومن اهتمام بالتراث المعماري عدا عن التراث الشعبي  الغني (ومن تطريز للنساء وغيره). 

لكن حراسة ورواية الحكاية الفلسطينية بتتابع فصولها لا يقتصر دحض  الرواية الصهيونية، بل  يستدعي  نقد الخطاب الفلسطيني الرسمي للمرحلة التي تلت اتفاق أوسلو لما تضمنه من تهميش لفلسطين كجغرافيا وتاريخ وسكان ومعنى، وهو أمر يسري على لغة الخطاب العربي الرسمي (كما تجلى في "المبادرة العربية للسلام" وفي اتفاقات "سلام" بين دول عربية وإسرائيل وفي العلاقات  العلنية وغير العلنية الجارية بين دول عربية وإسرائيل) وما بات يختزنه الخطاب الدولي الرسمي  حول المسألة الفلسطينية بعد  اسقاط سمة العنصرية عن الصهيونية، وعدم الانصات لانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان ولما تمارسه من جرائم حرب ومن استهتار بالمواثيق الدولية.  على الحقل الثقافي التصدي لمحاولات اختزال القضية الفلسطينية إلى قضية الاحتلال  الذي جرى في العام 1967، وإهمال اتلذي جرى عام 1948، وعليه أيضا دحض ومهاجمة اختزال فلسطين لحدود الضفة والقطاع، ورفض تحويل  حق عودة اللاجئين إلى وطنهم الأم كورقة مساومة على دولة فلسطينية (منقوصة السيادة ضمن موازين القوى القائمة والمنظورة على المدى القريب والمتوسط) على حدود الضفة والقطاع. ولا مبرر للحقل الثقافي المتحرر من ديكتاتوريا الجغرافيا السياسية وموازين القوى المادية   التخلي عن  حق الإنسان الفلسطيني بأن يحلم باستعادة حقوقه التاريخية و بعالم تسوده قيم الحرية والعدالة، وبحقه في أن يقاوم الاستبداد والقهر.

الاعتراف بحق إسرائيل  في الوجود  (وليس بإسرائيل) كان قصير النظر  وساذج إلى حدج البلاهة كون ساهم في تسويغ الصهيونية  كحركة تحرر  وطمس  حقيقة  كونها حركة استعمارية استيطانية أوروبية دعمتها، ولا تزال،  دولة امبراطورية استعمارية. ليس هناك ما يلزم  الحقل الثقافي القبول بأي تسوية تاريخية مع اليهود الإسرائيليين قبل تخليهم عن الصهيونية  كأيديولوجية  استعمارية عنصرية، وقبل اعتذارهم عما ألحقوه من ظلم تاريخي بالشعب الفلسطيني، وموافقتهم على ممارسة اللاجئين الفلسطينيين لحقهم في العودة  إلى الديار التي هجروا منها وتعويضهم وإلغاء حق يهود العالم في الهجرة  لفلسطين.  هذا هو شرط القبول  تسوية تاريخية للصراع تقوم على التعايش بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين بحقوق متساوية في دولة ديمقراطية واحدة أو ثنائية القومية.  ولا مسوّغ أخلاقيا لأية تسوية للصراع  تنال من حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرض وطنه التاريخية.

 على الثقافة الفلسطينية مهمة ليس فقط حراسة حكاية الشعب الفلسطيني التاريخية  بل  طرح  رؤية مستقبلية  لفلسطين  تجدد معناها الإنساني التحرري. ولعل  هذا ما قصده محمود درويش بقوله؛ "من يكتب حكايته يرثْ أرض الكلام، ويملك المعنى تماما!".  

الثقافة  في مواجهة الأصولية الدينية والسلفية التكفيرية

لا مهرب أمام الثقافة الفلسطينية إن أرادت صيانة مضمونها الديمقراطي التقدمي دون تفنيد  أفكار ومواقف الحركة الأصولية  والسلفية التكفيرية، سواء  رفعت شعارات إسلامية أو يهودية أو مسيحية أو شعارات أيديولوجية شمولية مغلقة.  فلا أفاق بناء مجتمع متحرر من الاستعباد والقهر والتمييز في ظل أيديولوجية أصولية مغلقة ترغب في هندسة الحاضر والمستقبل وفق منظور ماضوي.  الموقف الذي اعتمدته الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الحركة الصهيونية  والاستعمار البريطاني  والذي رفض تديين النضال السياسي الوطني كان صائبا تماما.  كما كان الموقف الذي ساد في منظمة التحرير الفلسطينية حتى  اقتحام  حقلها  السياسي  من قبل الاسلام الأصولي في أواخر الثمانينات،  والذي تخلت عنه، إلى حد كبير، السلطة الفلسطينية  بعد أن خرجت عن روح ونص اعلان الاستقلال الفلسطيني الذي أقرته منظمة التحرير في العام 1988، والبذي تبنى العلمانية  والديمقراطية السياسية  كموجهين ومرشدين  في ممارسة السياسة  حيث تقف السلطة السياسية على الحياد تجاه المعتقدات الدينية والمذهبية  لمواطنيها وتلتزم بمساواتهم التامة دون تمييز أمام القانون. 

لم يكن من قبيل الصدفة أن  الغالبية الساحقة من رموز الثقافة والفكر الفلسطينيين، قبل العام 1948 وبعده،  كانت (والنسبة الأكبر ما زالت حتى اللحظة) انتمت  للتيار العلماني الديمقراطي الذي حرص على فصل الحقل السياسي عن الحقل الديني واحترام استقلالية الحقل الثقافي-الفكري.  من هذه الرموز (على سبيل المثال وليس الحصر وجلهم توفي)؛  اسحق موسى الحسيني، خليل السكاكيني،  كلثوم عودة، بندلي جوزي، توفيق كنعان، هند الحسيني، مي زيادة،  فدوى طوقان،  غسان كنفافي، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمي)، مصطفى الحلاج، معين بسيسو، جبرا إبراهيم جبرا، توفيق زياد، رياض البندك، كامل المغني، محمود درويش، سميح القاسم، اسماعيل شموط، ناجي العلي، أميل حبيبي، إدوارد سعيد، وإبراهيم أو لغد، هشام شرابي، وهنالك العشرات بل المئات غيرهم (ومع الاعتذار الشديد ممن لم يرد اسمه أو اسمها  لأن ذلك يطيل القائمة بما لا تتسع له المقالة).  هذا يعود إلى أن الشعب الفلسطيني واجه، وما زال، حركة ودولة استعمارية استيطانية عنصرية  تستخدم الدين والأسطورة لتسويغ استعمارها واحتلالها وتهجيرها  لشعب آخر.  لقد شكل الفصل  بين الحقل الديني وبين الحقلين السياسي  والثقافي، أحد أهم مصادر مناعة منظمة التحرير الفلسطينية  إلى  أن داهمتها سلسلة من المتغيرات الزلزالية اشتدت في عقد الثمانينات ومع بداية عقد التسعينات.

ولادة الإسلام السياسي و السلفي الجهادي تمت بتمويل  من الريع النفطي وبرعاية من المراكز القوى الدولية وبترويج من  فضائيات تتبنى الإسلام الأصولي والسلفي الجهادي وبتمويل ورعاية من ذات القوى.  هدف الاسلام الأصولي السيطرة على السلطة السياسية والهيمنة على المجتمع وثقافته، وحقق نجاحات ملموسة في هيمنة على المجتمع وفي التأثير على الحقل الثقافي. فلسطينيا (وعربيا) برز هذا  في  فرض عقيدته الخاصة على سلوك المرأة في الحيز العام (تصرّفا وملبسا). في الضفة الغربية وقطاع غزة وصل الأمر لحد اعتبار البعض الفلسطيني أن اسمها عورة يجري التستر عليه، فلا ترد  إلا ظل لرجل  (أب أو زوج) وهو ما حدث في قوائم انتخاب المجالس المحلية والبلدية  التي كان  مفترض أن تتم الضفة الغربية وقطاع غزة  في خريف العام  2016 قبل أن يتم  تأجليها. ترك الإسلام الأصولي تأثيره على  المناهج المدرسية وعلى وسائل الإعلام، وعلى انكماش الدور التنويري للجامعات الفلسطينية مقارنة بما كان عليه في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي.

الأصولية الدينية ليست حكرا على دين معين، فهي ظاهرة نجدها في الإسلام و المسيحية واليهودية وأديان أخرى.  فلسطينيا وعربيا، تواجه  الثقافة الديمقراطية  بالإضافة للسلفية الجهادية الإسلامية، سلفية  قومية يهودية يمينية  باتت ممسكة بقوة بمواقع صناعة القرار في المؤسسة الحاكمة في إسرائيل.  والمرعب أن الإسلام الأصولي واليهودية الأصولية تسعيان لتحويل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى صراع ديني  وحرفه عن سمته كصراع من أجل التحرر الوطني ضد قوة استعمارية استيطانية محتلة.

العولمة النيوليبرالية  في مناطق السلطة الفلسطينية وواجب الثقافة الديمقراطية

 لم تعد تداعيات العولمة النيوليبرالية  خافية على الناس بما فيها على الفلسطينيين. كل التجمعات الفلسطينية داخل  فلسطين التاريخية وخارجها  بات تقيم في مجتمعات تحكمها سياسات رأسمالية نيوليبرالية، الأمر الذي عرّضها  للإفقار والبطالة وسوء الحال، بالإضافة إلى  سطوة الاحتلال والتمييز والعزل والحصار.  السلطة الفلسطينية نشأت في أوج سيطرة العولمة النيوليبرالية  وأشرف على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) والدول المانحة،  والحالة ذاتها  سرت على الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام  1948 وفي الأردن حيث اعتمدت إسرائيل والأردن  ولبنان وسوريا  في التسعينيات النيوليبرالية كموجه.  وكان من المتوقع أن يكون تأثير  هذه السياسة الأشد على الفئات الأكثر انكشافا في هذه المجتمعات. لذا نجد النسبة العالية من الإفقار والبطالة بين الفلسطينيين  في فلسطين التاريخية وخارجها، ولذا النسبة العالية بينهم الراغبة في الهجرة بحثا عن عمل  وحياة أمنة بلغت حسب بعض المسوح العلمية أكثر من ثلثي البالغين  بين فلسطيني لبنان وتجاولت 40% في قطاع غزة، وأكثر من ربع السكان في الضفة الغربية. 

لكن تداعيات العولمة الرأسمالية المتوحشة لا تقتصر على  توسيع الفجوات في توزيع الثروة والسلطة والمعرفة إذ  يقود تقليص  دور الدولة في الاقتصاد وفي الرعاية الاجتماعية إلى إعادة الحياة لتشكيلات ما قبل الدولة الحديثة  من حمائلية ومحلية ودينية وقومية ومناطقية وإلى تراجع قدرات التنظيمات السياسية على التنظيم والتحشيد.  كما أن تسليع النيوليبرالية  لمختلف مناحي الحياة (العمل، التعليم، الصحة، المسكن، المياه، الوقود، الثقافة ...) وإضعافها للنقابات والروابط  المهنية  يدفع باتجاه تنمية النزعة الفردية التنافسية والاستهلاك الاستعراضي، وكلاهما كان مستهجنا بين الفلسطينيين حتى منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، وبات الآن مصدر مباهاة (ممثلا في تملك الفلل، والسيارات الفارهة،  والبذخ  في حفلات الزواج، وارتياد  المطاعم والفنادق الفاخرة ...)، وتحديدا من  فئة رجال الأعمال و شرائح من الطبقة الوسطى رغم تشديد قبضة الدولة الاستعمارية على  مختلف مناحي الحياة في فلسطين.  ليس من الصعب ملاحظة التناغم الحاصل بين سياسات الليبرالية الجديدة والتوجهات الاقتصادية للإسلام الأصولي وللحركات السلفية الجهادية. ومن هنا  نجد  الظاهر ذاتها  في الضفة الغربية وقطاع غزة وبين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي الأردن ودول الخليج.

الثقافة وتوليد الترابط والتفاعل بين مكونات الشعب الفلسطيني

من تحديات الثقافة الفلسطينية باتجاهاتها الديمقراطية (وهناك اتجاهات غير ديمقراطية بل ورجعية ظلامية)  توليد مفهوم  جديد  للسياسة كشأن عام، وليست حكرا على نخبة من "السياسيين" أو رجال الأعمال أو قادة التنظيمات السياسية أو من ذوي المناصب الحكومية. هذا ما اكتشفه  ومارسه الفلسطينيون في الانتفاضة الأولى إلى أن تدخلت النخب السياسية (من الخارج) لتحجب عنهم ذلك. اعادة انتاج هذا المفهوم والحث على ممارسته هو من صلب مهام الاتجاه الديمقراطي التقدمي للحقل الثقافي. وهي مهمة باتت، فلسطينيا، ملحة للغاية نظرا  للحاجة لإعادة بناء حركة تحرر وطني جديدة  (سواء اتخذت اسم منظمة تحرير الجديدة أو غير ذلك) على أن  تشيّد أفقيا وعاموديا على اسس ديمقراطية تعددية جامعة  من حيث تمثيلها لكل مكونات الشعب الفلسطينية وتياراته السياسية والاجتماعية والثقافية.

لا تكتمل مهام الحقل الثقافي دون  الحاجة للانتباه  للتعليم  بمستوياته المختلفة كونه المولد الرئيسي للرأسمال الثقافي للأفراد وللمجتمع ككل. وهو اهتمام يستدعي التدقيق في مضمون المناهج التي تُعتمد في المدارس الحكومية والخاصة وفي مدارس وكالة الغوث (الأنروا). وحرص الناشطين في حقل الثقافة أن تحرص هذه المناهج  على حراسة فلسطين كجغرافيا وتاريخ وسكان و تراث ديمقراطي علماني وكمقاومة  متعددة الأشكال والأدوات ضد الاستعمار والاحتلال والقهر والتمييز. فلا يعقل (كمثال عابر) أن يُدّرس في المدارس الفلسطينية الحكومية أن المسيحية ظهرت  في أوروبا (وليس في فلسطين ثم انتشرت في أوروبا). ولا يعقل أن لا تعير الجامعات الفلسطينية اهتماما أوسع وأعمق بحياة وهموم الشعب الفلسطيني، وأن يختزل، عمليا، النشاط السياسي فيها على التنافس الموسمي على مقاعد مجالس الطلبة.

بوادر نهوض ثقافي فلسطيني

قد يكون  الإدراك  السائد بين الفلسطينيين بأنهم باتوا على درجة عالية من الانكشاف الوجودي  على  ضوء ما يتعرضون له وما جرى و يجري في المنطقة العربية من حروب وتهجير وتدمير وتشنيع همجي ما يفسر، ولو جزئيا، حالة النهوض التي يشهدها الحقل  الثقافي الفلسطيني (بمكوناته الأدبية والفنية والأدائية والبصرية والفكرية والإلكترونية) في العقد الأخير من قبل أفراد (وتحديدا في الشعر والرواية والقصة والفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والتحقيقات والمقالات الصحافية وغيرها) ومن قبل مجموعات (كما في الموسيقى والمسرح والسينما  والرقص والغناء وغيرها) ومن قبل مؤسسات (بخاصة مراكز البحث والتفكير والحوار).  كما بتنا نشاهد أشكالا من  التواصل والتفاعل بين مؤسسات ثقافية وفكرية تقيم في تجمعات مختلفة بهدف  التبادل الثقافي والمعرفي والتداول في الشأن الفلسطيني  العام.  ويبدو أن غياب هيمنة مركز مديني  ثقافي فلسطيني جامع (بحكم غياب الدولة الوطنية على إقليمها) ليس عاملا كابحا لنهوض حالة  ثقافية تواجه ما يجري من تشويه لجغرافيا وتاريخ وثقافة وديموغرافيا فلسطين،  وما يغمر المنطقة من عولمة رأسمالية جشعة ديدنها الربح، ومن "تديين" مرعب للسياسة والاجتماع، ومن نهوض  لحراك فكري سياسي يستفزه تواطؤ  نخب سياسية  خائبة و رأسمال محلي رث،  ضد  قيم الحرية  والعدالة والكرامة الإنسانية والوطنية، وما تبثه على مدار الساعة مئات الفضائيات العربية وغير العربية من احتفاء  بالجهل  والتخلف والقبح.

تكفي نظرة سريعة لما بات  ينتج  في الحقل الثقافي الفلسطيني من روايات وقصص وأفلام  وفن تشكيلي وما ينظم في فلسطين وخارجها من معارض نشاطات موسيقية وأدائية وفكرية  وتأملية لإدراك أن الشعب الفلسطيني يعيش حالة مخاض وأنه، رغم  ما يحيط به راهنا من خذلان وانسداد أفق،  فإن فلسطين ستبقى رديفا للحرية و لصناعة الأمل، وأن الثقافة هي فضاء لصراع متجدد ضد الاستبداد والقهر.

(مجلة الدراسات الفلسطينية العدد الأخير (109 شتاء 2017)