دونالد ترامب وعودة القومية الاقتصادية ..بقلم: طارق دعنا

السبت 14 يناير 2017 10:39 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

لعل من أكثر الأمور المثيرة للاهتمام في برنامج الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب هو طرحه لرؤية اقتصادية تخالف التوجهات العامة لطبقة الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال التي ينتمي إليها. فقد أنتجت وعودُه الانتخابية حالةً من عدم اليقين بمستقبل الاقتصاد الأميركي والعالمي ككل، ما أثار مخاوف لوبيات الأعمال والمستثمرين، ليس على مصالحهم الاقتصادية والمالية فحسب، بل أيضاً على إنجازات العولمة وما حققته من انفتاح اقتصادي عالمي يسَّرَ عملية تراكم رأس المال لصالح طبقة الرأسماليين. فمن المتعارف عليه بأن هذه الطبقة، سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها من الدول، تسعى دوماً باتجاه اللبرلة الاقتصادية، وما تتضمنها من سياسات السوق المفتوح والخصخصة، وإزالة القيود أمام التجارة الدولية، وحركة رؤوس الأموال، وتخفيض الضرائب على المستثمرين إلى أدنى مستوياتها. تمثل هذه السياسات في مجملها التوجه الأيديولوجي الذي يدير الاقتصاد الأميركي ومسار العولمة الاقتصادية، والتي حققت مستويات غير مسبوقة من الإثراء للطبقة الرأسمالية، وبنفس الوقت أضرت ببنية الطبقة الوسطى وأدت إلى تهالكها.
وقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز بأن ثروة ١٪ من المواطنين تفوق ما يمتلكه ٩٠٪ من السكان في الولايات المتحدة الأميركية.
يعزو الناقدون المسار الحالي للاقتصاد الأميركي، والذي لم يتعاف بعد من تداعيات أزمة ٢٠٠٨ المالية، والفجوات الاقتصادية المتصاعدة بين الطبقات، إلى مجموعة من الإجراءات التي تبنتها الإدارات الأميركية المتلاحقة منذ إدارة دونالد ريغان (١٩٨١-١٩٨٩)، وقد سار على نفس الخطى كل من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، وهو ما أدى إلى انحسار دور الدولة في تنظيم بعض النواحي الاقتصادية، وتراجع الاستثمار في البنية التحتية، وتهتُّك شبكة الرفاه التي تبنتها الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد ساهمت العولمة الاقتصادية في تحويل الاقتصاد الأميركي إلى اقتصاد يعتمد على القطاع المالي والخدمي المستند على التكنولوجيا المتقدمة، على حساب التصنيع الذي شكل سابقاً مصدراً أساسياً لتشغيل قطاعات واسعة من الأيدي العاملة. ونتيجة لذلك شهد ربع القرن الأخير هجرة رؤوس الأموال والاستثمارات الصناعية إلى ملاذات أكثر إدراراً للربح مثل الصين والمكسيك وغيرها، ما أدى إلى إغلاق آلاف المصانع وخسارة ملايين العمال لوظائفهم. وكانت النتيجة امتعاض الكثيرين من استمرار الإدارات الأميركية المتعاقبة في تبني نفس السياسات بدون تعديلات جوهرية. وفي هذه الأجواء استطاع دونالد ترامب التلاعب بالتناقضات المتزايدة بين الناخبين والحزبين التقليديين، عبر تقديمه خطاباً قومياً شعبوياً وبرنامجاً اقتصادياً حمائياً، مُرضِياً لقطاع عريض من الناخبين، ومُنَفراً للمؤسسة الرسمية، بما في ذلك الحزب الجمهوري الذي ترشح للرئاسة عبر قنواته.
يحكم برنامج ترامب الانتخابي توجهات قومية في الاقتصاد والسياسة، وقد اختصرها في شعاره الانتخابي «جعل أميركا عظيمة مجدداً». فمن الناحية الاقتصادية، يرجع ترامب إلى الأذهان صورة أليكساندر هاميلتون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ووزير خزانتها الأول (١٧٨٩-١٧٩٥)، والذي تبنى شعار «العظمة الوطنية» لبناء الولايات المتحدة الناشئة بعد نيلها الاستقلال من بريطانيا. ومن خلال التقارير الدورية التي قدمها للكونغرس، والتي تضمنت رؤيته الاستراتيجية في بناء الاقتصاد، كان هاميلتون من أوائل الذين وضعوا أسس النظرية القومية في الاقتصاد. لقد هندس هاميلتون الاقتصاد الأميركي على أسس حمائية، وشدَّدَ على وجود حكومة مركزية قوية تتحكم بسياسات البنك المركزي، وتدعم الشركات وتشجع الصناعات المحلية، وتستثمر في البنية التحتية، وتفرض تعريفات جمركية عالية على المصنعات المستوردة لحماية المنتج الأميركي من المنافسة الأجنبية. ولكن بخلاف موقف هاميلتون المشجع للهجرة لأهميتها في بناء الاقتصاد الناشئ للولايات المتحدة في ذلك الوقت، أظهر ترامب موقفاً معاديا وعنصرياً للهجرة، ووعد بإعادة النظر في سياسات الهجرة المتبعة في البلاد. وبرغم التفاوت الزمني والظرفي بين هاميلتون وترامب، تأتي وعود ترامب منسجمة مع رؤية هاميلتون للاقتصاد القومي. فقد ارتكزت رؤية هاميلتون على بناء اقتصاد حمائي كأساس لبناء الدولة الأميركية، بينما يسعى ترامب إلى «ضرورة إعادة بناء الاقتصاد الأميركي واسترجاع عظمتها السياسية».
وبرغم النزعات القومية الاقتصادية الواضحة، إلا أن ترامب قد أكَّد في أكثر من مناسبة بأنه لا يعادي نظريات السوق المفتوح والتجارة الحرة، بقدر ما يستنكر آليات تطبيقاتها دولياً، والتي يرى بأنها أدت إلى الإضرار بالاقتصاد الأميركي لصالح اقتصاديات أُخرى في العالم. فبالنسبة لترامب، تشكل الصين خطراً اقتصادياً لأنها «تنهب فرص العمل من الأميركيين» لكونها توفر بيئة جاذبة للاستثمارات الصناعية القادمة من الولايات المتحدة، والتي يتم إعادة تصديرها إلى الأسواق الاستهلاكية الأميركية. فعلى سبيل المثال، بعث الرئيس المنتخب رسائل واضحة إلى المستثمرين الأميركيين في الصين تفيد بضرورة استرجاع الاستثمارات الصناعية إلى داخل الولايات المتحدة، مع وعود بتقديم حوافز جديدة تشمل تخفيض الضرائب على الاستثمارات، وفي حال بقيت هذه الاستثمارات في الصين فستقوم إدارته بفرض تعريفات جمركية عالية، وستعامل منتجاتهم معاملة البضائع الأجنبية للحفاظ على القدرة التنافسية للمنتج الأميركي (وهو بذلك يخالف مبدأ المعاملة الوطنية لمنظمة التجارة الدولية).
وفي نفس الوقت شن ترامب هجوماً على اتفاقيات التجارة الحرة وهدد بتقويضها، وخصَّ بالذكر اتفاقية نافتا، ومشروع اتفاق التجارة الحرة عبر الأطلنطي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ وغيرها، ووصفها بالاتفاقيات «غير العادلة» لأنها قد أسهمت بإحداث خلل بنيوي في الاقتصاد الأميركي، نتيجة للأضرار التي تلحقها بقطاع العمالة الأميركية وتأثيراتها السلبية على القدرات التنافسية للمنتجات المصنّعة محلياً.
ولإثبات جديته في تطبيق رؤيته الاقتصادية، قام ترامب مؤخراً بتعيين روبرت لايتزر كممثل الإدارة الأميركية للتجارة الدولية، والمعروف في الأوساط الاقتصادية الأميركية بكونه مدافعاً شرساً عن السياسات الحمائية وناقداً للسياسة الأميركية الخارجية في مجال التجارة الدولية. وقد وصفت صحيفة فاينانشال تايمز هذا التعيين بمثابة «مؤشر مهم للتحول الجوهري في سياسات أميركا تجاه التجارة الدولية بعد تسلم ترامب للرئاسة رسمياً في ٢٠ كانون الثاني القادم». وأثار هذا التعيين مخاوف المستثمرين في الأسواق الدولية، حيث يتوقع العديد من الاقتصاديين بأن تطبيق السياسات الحمائية في الولايات المتحدة الأميركية سيكون لها ارتدادات دولية واسعة وستدفع الكثير من الدول في تبني سياسات حمائية لمواجهة الأضرار التي قد تصيب التجارة الدولية والاقتصاد العالمي.
قد يبدو خطاب ترامب الانتخابي متناقضاً وغير واضح في العديد من قضايا السياسة الخارجية، إلا أن برنامجه الاقتصادي بقي منسجماً ومعبراً عن أفكاره ومبادئه حتى قبل ترشحه للانتخابات الرئاسية. مما لا شك فيه بأن سياسات ترامب القومية في الاقتصاد، وانعكاساتها على السياسة، ستواجَه بعقبات داخلية عديدة من ِقبل المؤسسة الرسمية والحزبين الرئيسين ولوبيات الأعمال التي تدافع عن الاستثمار في الخارج، ولكنها ستحظى برضى الشرائح المتضررة في المجتمع الأميركي. والأهم من ذلك، سيكون لهذه السياسات تأثيرات واسعة النطاق على النظام الاقتصادي الدولي، لاسيما بأنها ستشكِّل أكبر تحدٍّ للعولمة الاقتصادية بطابعها الليبرالي الجديد.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي- جامعة بيرزيت