شكراً.... بيتسيلم ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 10 يناير 2017 11:31 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

دخل أليئور أزاريا المحكمة ضاحكاً فخوراً بفعلته السوداء وسط مجموعات من المعجبين ومئات المتظاهرين المؤيدين له. "أزاريا" بفعلته هَزّ الحكومة والجنرالات والمجتمع معاً. حكومة نتنياهو دخلت في بازار المطالبة بالإفراج عن الجندي المدان بجريمة قتل لا يعوزها دليل، بفعل التوثيق المهني الذي قدمته كاميرا عماد ابو شمسية ومنظمة بيتسيلم الإسرائيلية. والمجتمع الإسرائيلي قدم نموذجاً فظيعاً من ثقافة كولونيالية عنصرية اكتسبها طوال عقود طويلة من الاحتلال والتعبئة المحمومة القائمة على إنكار شعب آخر بما في ذلك رفض حقوقه الإنسانية والوطنية. فقد أيد 70% من الإسرائيليين العفو عن الجندي الذي أدانته المحكمة، مقابل 19% رفضوا العفو عنه بحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة "إسرائيل اليوم". واعتبر 58% من المستطلعين ان الجندي المدان ابن لهم، رغم أن 51% لا يوافقون على جريمته، و64% قالوا إن المؤسسة العسكرية تخلت عن الجندي بحسب استطلاع آخر أجراه معهد فانكس للسياسة ونشرته صحيفة معاريف. نتائج الاستطلاع المتعارضة تكشف بؤس الثقافة الاسرائيلية السائدة. فكيف يطالب 70% الافراج عن جندي لا يوافق 51% على الجريمة التي ارتكبها؟ وكيف يتعامل 58% مع قاتل باعتباره ابناً لهم؟ 
آخر ما تفتق عنه عقل بعض المسؤولين الإسرائيليين حول مشهد الدهس في مدينة القدس، هو تفسير هرب الجنود الذين تعرضوا للدهس وعدم إطلاق النار على المهاجم الى خشيتهم من إدانة المحكمة لهم على غرار إدانة الجندي آزاريا. هكذا يبدو التخبط والتعارض في مواقف المستويين الإسرائيليين "فوق وتحت" والذي يعود أساساً لثقافة الابرتهايد الكولونيالي السائدة التي كرستها المؤسسة السياسية والأمنية والتعليمية الإسرائيلية. تلك المؤسسة التي شرعنت أعمالاً غير قانونية وغير أخلاقية كمصادرة الاراضي ونهب الموارد وإقامة المستوطنات وطرد المواطنين وتضييق سبل العيش الى مستوى الخنق الاقتصادي، واتباع نظام عقوبات ومنظومة قوانين بائدة تعود الى عهدي الاستعمارين العثماني والبريطاني، وتسويغ جرائم حرب وعدم الاعتراف بالقانون الدولي ولا بقرارات الشرعية الدولية وعوضا من الاعتراف بهما فإنها تقوم باستبدالهما بأيديولوجية دينية تعصبية لا تسمح بأي هامش للتعايش بين الشعبين. 
وخلافاً لأنظمة الاستعمار القديم التي حاولت التصالح مع الشعوب التي استعمرتها، ترفض المؤسسة الإسرائيلية مجرد الاقتراب من فكرة التصالح مع الشعب الفلسطيني والتي لن تكون في ظل ثقافة وسياسات الابارتهايد الكولونيالي. بل إن المؤسسة الإسرائيلية تسعى الى تدمير كل المحاولات والمبادرات التي تحاول فتح ثغرة في الانسداد السياسي لهذا الصراع الطويل. وتعمل كل ما في وسعها لتدمير مقومات الحلول الافتراضية على الأرض. إن رفض المؤسسة الإسرائيلية كل قواعد الحل السياسي ما عدا القاعدة التي تعيد انتاج علاقة أسياد وعبيد، وعدم الاعتراف بأن ذلك العهد ولى ولن يعاد انتاجه في القرن الـ 21، فإنها تمضي بذلك إلى نقل المجتمع والدولة الى حالة من التوحش التي تفصلهما عن أسرة الشعوب والدول وعن القانون الدولي والاتفاقات والمعاهدات التي تشكل ناظما ومرجعية لها. 
جريمة الجندي ومحاكمته وردود الفعل الاسرائيلية الرسمية والشعبية عليها عرفت العالم الانساني وليس العالم المتوحش على ما تفعله دولة إسرائيل بالسكان الاصليين (الشعب الفلسطيني) من تفكيك واضطهاد وقهر، وما تفعله في الوقت نفسه بالمجتمع والدولة الإسرائيلية من خراب وتشوه وانفصال عن أسرة الشعوب. لم تدرك المؤسسة الاسرائيلية الراعية لهذه العملية ان وحشيتها الموجهة ضد المجتمع الفلسطيني لها ارتدادات معاكسة في الاتجاه ومساوية في المقدار داخل المجتمع الاسرائيلي. فهي تصنع فلسطينيين يذهبون الى الموت ولسان حالهم يقول "علي وعلى أعدائي" بعد أن بلغ السيل الزبا في مسلسل القهر، أو فلسطينيين يتعايشون مع القهر وهم في حالة فصام واستلاب في ظل حركة سياسية فلسطينية عاجزة ومشلولة. وفي الوقت نفسه تصنع المؤسسة الإسرائيلية، إسرائيليين من أصحاب الحناجر الملتهبة الذين هتفوا أثناء محاكمة أزاريا " "غادي غادي رابين يبحث عن صديق" وما يعنيه ذلك من تهديد غادي ايزنكوف رئيس الاركان بالقتل" كما قتل رابين من قبل، وتصنع مستوطنين فاشيين وكهانيين جددا ومنظمة لاهافا ومنظمة لافاميليا ووزراء ومسؤولين حكوميين يتبنون الأفكار العنصرية ذاتها أو يدافعون عنها. 
لقد أوقع توثيق بيتسيلم لجريمة القتل المحكمة العسكرية في ورطة، تلك المحكمة التي لها باع طويلة في تبييض جرائم العسكريين. لكن هذه الجريمة الموثقة بالصورة والصوت والتي لا يوجد لها غير قراءة واحدة هي عملية إعدام ميداني بدم بارد، أربك المحكمة العسكرية، واضطرها لإدانة الجريمة بعد تخفيفها الى أقل مدى ممكن، بلصق تهمة "القتل غير العمد " الذي سيقلل الحكم الى الحد الأدنى، لتفادي فضيحة شرعنة أعمال غير قانونية وغير أخلاقية "جرائم حرب". لقد حيدت المحكمة الجانب الاخلاقي للجريمة وقررت أن أزاريا أطلق النار بدافع الانتقام. وهناك من يقول ان أزاريا جندي وممرض وفي حالة أنه كان ممرضا وقام بقتل المصاب عوضا عن علاجه فإنه يكون قد قتل المهمة الانسانية لجهاز الاسعاف الى جانب قتله للشريف. هذا التبرير القانوني المسخ الذي قدمته المحكمة، شبيه بتبرير بعض محاكمنا لجرائم القتل على خلفية فورة غضب دفاعا عن ما يسمى شرف العائلة، وتكون النتيجة الحكم ببضعة أشهر سجن بدلا من التعامل مع جريمة قتل والحكم عليه بالسجن المؤبد. كان قرار المحكمة بالادانة التي أغضبت أكثرية اعتبرته بطلا لانه قتل فلسطينيا. لكن القرار جاء في صيغة تبييض الجريمة بنقلها من حالة القتل العمد، الى حالة القتل اللاعمد التي تفتقر الى سند قانوني مقنع، وبهذا فإن الحكم يبرر الجريمة التي تملك أكثر من سند قانوني، فضلا على انه لا يشكل رادعا لتكرارها. سابقا، فتح جيش الاحتلال تحقيقات في اكثر من 20 حالة إطلاق نار على مواطنين فلسطينيين ولم تتوصل التحقيقات الى لائحة اتهام تدين المتهمين وتقضي باعتقالهم. كلنا يذكر إطلاق النار على طفلة تحمل مقصا، وفتيات وفتيان يحملون سكين مطبخ وسيدة تعطلت السيارة التي تقودها ولا يوجد اي مبرر لاطلاق النار عليهم بحسب القانون العسكري الاسرائيلي، وليس بحسب اتفاقية جنيف الرابعة. عشرات الفلسطينيين "حالات فردية " ومئات آخرون استهدفوا وقتلوا بقصف جوي وبري وبحري، ولم تحقق المحكمة العسكرية الاسرائيلية مع المتهمين بقتلهم إلا في حالات نادرة وقامت بإصدار أحكام هزيلة. اختم بالقول كما قال كثيرون : لولا فيلم بيتسيلم لطويت صفحة استشهاد الشريف كما طويت عشرات ومئات الصفحات، ولما تعرف العالم على طهارة سلاح جيش الدفاع، شكراً بيتسيلم. 
Mohanned_t@yahoo.com