السياق التاريخي لـ"الترامبية" ...جواد البشيتي

السبت 07 يناير 2017 10:17 م / بتوقيت القدس +2GMT



أوصاف كثيرة وُصِفَت بها السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما المنصرفة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "الضعف"، "التَّردُّد"، "قِلَّة أو انعدام الحزم"، "الانسحاب والانكفاء والتراجع أمام روسيا وإيران"، وغيرها كـ"التخلِّي عن دورها القيادي والريادي" لمصلحة قوى دولية منافسة لها.
لقد رأينا إدارة الرئيس أوباما تتخذ من المواقف "الضعيفة" في أزمة شبه جزيرة القرم ما خَلَق انطباعاً أنَّها سلَّمت بالأمر الواقع، وهو ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وأنَّها تشجِّع سيِّد الكرملين بوتين على المضي قُدُماً في نهجه الجديد (السوفياتي، أو الستاليني). وكان لموقفها هذا أثره السلبي في نفوس حلفائها الجدد في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفي أوروبا الشرقية؛ فهؤلاء استبد بهم شعور بأنَّ التحالف مع الولايات المتحدة لا يمكن الاطمئنان إليه، والتعويل عليه كثيراً، وبأنَّ هذه الدولة يمكن أنْ تتخلى عنهم، وتخذلهم، في أي وقت.
حتى في جنوب وشرق أوكرانيا لم تتخذ الولايات المتحدة من المواقف إلا ما يَصْلُح لدولةٍ تريد استعراض ضعفها، لا قوَّتها؛ ومع ذلك كان أمراً لافتاً، ومثيراً للخيال السياسي، أنْ تَفْهَم الولايات المتحدة، وتُفسِّر، ما وَقَع في القرم وشرق أوكرانيا، على أنَّه استعادة تاريخية (جاءت من "روسيا بوتين") للظروف والأجواء النفسية التي كانت قائمة عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي اتسمت جوهريّاً بانفجار روح التعصب القومي والعرقي، وبصعود النُّظم الشمولية والاستبدادية، وبتنامي حضور وتأثير قوى اليمين المتطرِّف.
ولقد صَوَّر لافروف هذا "التراجع" على أنَّه البداية لقيام "قيادة دولية جماعية"؛ وكأنَّه أراد أنْ ينعى مرحلة انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم.
متغيِّرات كثيرة عرفها العالم، وما كان لها أنْ تنزل على الولايات المتحدة برداً وسلاماً؛ فإمَّا أنْ تُسلِّم (القوَّة العظمى في العالم) بالأمر الواقع، وتقبل التخلي عن احتكارها قيادة العالم والتحكم في شؤونه، كما اعتادت، وتغدو جزءاً من "القيادة الدولية الجماعية"، وإمَّا أنْ تنتهج نهجاً جديداً، غايته النهائية هي إجهاض محاولات منافسيها الكبار للتأسيس لنظام دولي جديد، والعودة في وقت لاحق إلى بسط هيمنتها الأحادية على العالم.
إنها تتصرَّف الآن ـ وهذا ما يجعل سياستها تبدو متناقضة ـ كمثل زعيم عشيرة، اعتاد تزعُّم عشيرته، زمناً طويلاً، من غير أنْ يجرؤ أحد على تحدِّي زعامته، ومنافسته في الزعامة؛ ثمَّ تغيَّرت الأحوال، وبرز منافسون وخصوم له، ويتَحدُّون وحدانية زعامته؛ فما كان منه، وهو الذي عمل زمناً طويلاً على بذْر بذور الأزمات والنزاعات بين أبناء عشيرته، إلا أنْ اعتكف في بيته، نافضاً يديه من أمور وشؤون عشيرته، تاركاً الأزمات والنزاعات، التي بذر بذورها، وتحكَّم فيها زمناً طويلاً، تنفجر تباعاً، متحدِّياً كبار منافسيه وخصومه أنْ يثبتوا أهليتهم لإدارة وتسيير الأمور، ولتسوية المنازعات والخلافات، وإطفاء نيران الحروب التي اندلعت هنا، وهناك، أمَّا توقُّعه فهو أنْ يفشل سعيهم، وأنْ يتورَّطوا هُمْ أنفسهم في هذه الصراعات المدمِّرة، ويتكبدوا من الخسائر ما يجعل عودة زعيم العشيرة إلى الحكم بلا منازع مطلباً لهم، لا له.
إنَّ الولايات المتحدة، وعلى الرغم ممَّا انتابها من ضعف في جوانب عدة من جوانب قوتها الشاملة، تظل أكبر من أنْ تنعزل ضمن حدودها، أو ضمن مجالها الإقليمي؛ لكنها، في الوقت نفسه، ستُمارِس من الانعزال والانطواء (والانكفاء، والانسحاب) ما يفي بغرضها الإستراتيجي، وهو خَلْق مناطق فراغ في العالم لا يملؤها من منافسيها وخصومها الدوليين والإقليميين إلا من اختار أنْ يُوْقِع نفسه بنفسه في هذا الأتون، والذي به تُتَرْجم الولايات المتحدة فَهْمَها الإستراتيجي لنظرية "صراع الحضارات والثقافات"؛ وهذا الصراع لا يعني في منطقتنا إلا صراع الطوائف والمذاهب والأعراق والقوميات.
ستظل الولايات المتحدة محتفظةً بالسيطرة على كل ما تعتبره مواقع إستراتيجية لها في قارات ومناطق وأقاليم العالم؛ فالفراغات الإستراتيجية التي ستُحْدِثها ستكون مختارة ومنتقاة، مؤديةً الغرض الإستراتيجي منها، وهو توريط منافسيها وخصومها الدوليين والإقليميين في حرب عالمية جديدة، يقودها التعصب الديني والطائفي والمذهبي والعرقي، وتستنزف قواهم جميعاً؛ أمَّا هي فلن يضيرها بشيء أنْ تخوض هذه الحرب بالسلاح تبيعه للمتقاتلين، وبالتصرف في طريقة لا تفيد إلا في سكب مزيد من الزيت على نيران بعض النزاعات (الحميدة من وجهة نظر مصالحها). ولقد رأينا بعض خصومها يلعبون هذه اللعبة وُفْق القواعد التي حدَّدتها هي لهم؛ فاقتتال خصومها هو طريقتها الفضلى الآن في قتالها لهم جميعاً.
إنَّها "العزلة الإيجابية التكتيكية المؤقتة"، لا "العزلة بمفهومها السلبي والضَّيِّق"، هي التي شرعت تسير في مسارها الولايات المتحدة؛ فظاهرها "عزلة وانعزال وانطواء وانكفاء"؛ أمَّا باطنها فهو "هجوم مضاد"، تشنه الولايات المتحدة بأيدي غيرها (ومنهم خصومها) لا بيديها هي؛ ولا هدف نهائيّاً لهذا الهجوم المضاد، المتسربل بالعزلة، إلا زلزلة الأرض تحت أقدام منافسيها وخصومها الدوليين والإقليميين، وإنهاكهم، واستنزافهم، وتشديد الحاجة العالمية، من ثمَّ، إلى عودة الولايات المتحدة إلى قيادة وحكم العالم بلا منازع، وكأنَّها طائر الفينيق الذي يخرج من تحت الرماد (والذي هو رماد العالم وخصومها) أكثر قوَّة وحيوية وجمالاً.
ويبدو أنَّ المبدأ الذي تسترشد به السياسة الخارجية للولايات المتحدة الآن هو "دَعْهُم" يقتتلون، في حروب هي أقرب ما تكون لجهة ماهيتها وطبيعتها إلى مفهوم "صراع الحضارات والثقافات"، والذي هو الأساس النظري لحروب ونزاعات مشحونة بشحنة هائلة من التعصب القومي والعرقي والديني والطائفي؛ وكأنَّ الولايات المتحدة اكتشفت أنَّ قتالها لخصومها يمكن ويجب أنْ يأتي من طريق جَعْل هؤلاء الخصوم يقتتلون.
ستظل الولايات المتحدة محتفظةً بوجود إستراتيجي، متعدد الوجه، في بعض المناطق والمواقع الإقليمية والدولية، والتي تشبه رؤوس جسور لعودتها اللاحقة إلى حكم وقيادة العالم، الذي أنهكته واستنزفته ودمَّرته الحروب والنزاعات "بين الحضارات والثقافات"، والذي غرقت في فوضاه العارمة قوى دولية كبرى منافسة للولايات المتحدة، وعانت ما عاناه غيرها من مصائب وكوارث انفجار صراع الحضارات والثقافات، لتتهيَّأ من جديد الفرصة التاريخية لعودة "المُنْقِذ" و"المُخلِّص" العالمي، ألا وهو الولايات المتحدة، التي نَفَثَ التاريخ في روعها أنَّ الحروب العالمية هي دائماً خشبة الخلاص لها من أزماتها، وأقصر الطرق إلى استعادتها المفقود من هيمنها العالمية.
الولايات المتحدة، المنتشية من انتصارها التاريخي على "إمبراطورية الشَّر"، والتي فَهِمَت، أو كادت تَفْهَم، هذا الانتصار على أنَّه "نهاية التاريخ"، قالتها، غير مرَّة: إنَّ القرن الحادي والعشرين هو قَرنها، ويجب أن يكون قرنها؛ لكنَّ قولها هذا لم يقَع على أسماع، في خارج حدودها، تشبه سمعها؛ فالاتحاد الأوروبي قام، والصين شرعت تتحدَّى "الحكومة العالمية"، مُهيِّئةً نفسها لانتزاع عرش الاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة؛ أمَّا روسيا، التي استبدَّ بها ما استبدَّ بألمانيا من مشاعر عشية تحوُّلها إلى النازية، فأدركت، أو شرعت تُدْرِك، أهمية وضرورة أنْ تستعيد ما فقدته من أسباب القوَّة العالمية، وصولاً إلى التأسيس مع قوى دولية أخرى لتوازن دولي جديد؛ ولقد كان بوتين ابن هذه الضرورة التاريخية الروسية، وخير من يُمثِّل، ويَتمثَّل، الروح القومية الروسية الجديدة؛ وكانت شبه جزيرة القرم المكان الذي فيه أراد سيِّد الكرملين تدشين وافتتاح عصر دولي جديد، يتقيَّد فيه الغرب، وفي مقدمه الولايات المتحدة، بتوازن دولي جديد.
"القوَّة العالمية النسبية" للولايات المتحدة هي اليوم دون ما كانت عليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فثمة قوى عالمية تُنافِس (وتُصارِع) الولايات المتحدة، في مقدمها "روسيا بوتين"، والصين، والاتحاد الأوروبي، واليابان؛ وفي عالَمٍ كهذا يَصْعُب على الولايات المتحدة أنْ تعيش كما تريد؛ وينبغي لها أنْ تعود، عودةً مؤقَّتةً، إلى "المَصْدَر التاريخي (والقديم)" لقوَّتها العالمية، ألا وهو "العزلة (عن العالَم، وإلى حين)"، تاركةً العالَم يَسْتَجْمِع بنفسه أسباب "انفجارٍ عالميٍّ جديدٍ"، يشبه "حرباً عالميةً ثالثةً"، لا تتورَّط الولايات المتحدة في خوضها إلا في فَصْلِها الختامي، كما فَعَلَت، مِنْ قَبْل، وفي الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص؛ فالتجربة التاريخية علَّمتها أنَّ انعزالها (عن العالَم، وإلى حين) مع تحرير كل صراعٍ كبير فيه من القيود، ومن قيودها هي في المقام الأوَّل، وتَرْكِ دوله، وتكتُّلاته الدولية والإقليمية، وشعوبه، وأُممه، نَهْباً لحروب (قومية وعرقية ودينية وطائفية..) وحشية مدمِّرة، هو ما يكسبها مزيداً من الطاقة والحيوية والقوَّة، ويؤسِّس لها هيمنة عالمية جديدة، تستمر زمناً طويلاً؛ فالقرن الحادي والعشرون تريد له أنْ يكون قرنها وحدها، شاءت الصين أم أَبَت!
لقد انتقل العالم (أو النظام الدولي) من "القيادة الثنائية (قيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق)" إلى "القيادة الأحادية" إذْ انفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم حتى كادت أن تتحوَّل إلى "حكومة عالمية"؛ أمَّا العزلة الجديدة للولايات المتحدة فستكون أقرب إلى الخيار التكتيكي منها إلى الخيار الإستراتيجي، وستشبه عزلتها الأقدم، والتي دعا إليها أوَّل رئيس لهذه الدولة، جورج واشنطن، في الشكل أكثر مِمَّا ستشبهها في المضمون.
ما نراه الآن هو حرب عالمية ثالثة أضْرَمَت نيرانها القوَّة العظمى في العالم، بطريقة ذكية، خفية، وشيطانية، متوقِّعةً لها من النتائج ما يجعل عودتها إلى "حُكْم العالَم بلا منازِع (روسي أو صيني..)" مطلباً لعالَمٍ نُكِبَ بانفجارٍ (أو تفجيرٍ) من الداخل لكثيرٍ من دوله ومناطقه، أو بحروبٍ تتبادل أطرافها الفناء والدمار!
الولايات المتحدة ما عاد في مقدورها العيش في عالَمٍ تُنازِعها زعامته (السياسية والاقتصادية والمالية) قوى عدة، فعَزَمَت على التَّراجع إلى الوراء خطوات عدة لتَقْفِز، ثمَّ تأتي قفزتها التاريخية الكبرى، مستعيدةً حُكْم العالَم بلا منازِع؛ وفي أثناء هذا "التَّراجع التكتيكي المنظَّم" تَسْتَبْدِل "تفجير الأزمات" بـ"إدارتها"، تاركِةً الألغام التي زرعتها من قَبل، أيْ في أثناء إدارتها للأزمات، تَنْفَجِر، بدءاً بـ"الألغام العربية"!
الولايات المتحدة تريد حرباً عالمية من نمط مختلف وجديد؛ فهي ما زالت تَفْهَم الحرب العالمية الثانية على أنَّها الرَّحم التي منها خَرَجَت عظمتها العالمية؛ وفي أثناء "تراجعها التكتيكي المنظَّم"، تلعب الولايات المتحدة لعبة "إحداث الفراغ الإستراتيجي" في بعض المناطق، فيندفع منافسوها وخصومها (الدوليون والإقليميون) لملء هذا "الفراغ الذي اصطنعته"، والذي هو أقرب ما يكون إلى "الفخِّ" و"الهاوية"، فيقتتلون ويصطرعون، ويفقدون السيطرة على كل نزاع، وليس على النزاع بينهم فحسب؛ وفي هذا الصراع "يموت" كثيرٌ من "كبار الدائنين" للولايات المتحدة، فتتخلَّص، بهذه الطريقة، من كثير من ديونها، ويغدو العالَم بأسره سوقاً كبيرة لصناعاتها العسكرية، فتدور عجلة اقتصادها بقوَّة صادرات الأسلحة، وتمتص (من طريق بيع السلاح) جزءاً هائلاً من كتلتها النقدية الخارجية (نحو 16 تريليون دولار). وأخيراً، تعود إلى العالَم في شكل المنقذ والمخلِّص، وبمشاريع تشبه مشروع مارشال، فيَغْدو القرن الحادي والعشرون قرنها.
الآن، والآن فحسب، أصبح في مقدور الولايات المتحدة تفجير "قنبلتها التاريخية"، ألا وهي تَرْك العالَم نهباً لحروبه القومية والعرقية والدينية والطائفية..؛ والسبب يكمن في "الاغتناء النفطي والغازي" للولايات المتحدة؛ ولقد أسَّس الباحث صمويل هنتجتون، سنة 1993، نظريّاً لهذا النمط من الحروب العالمية إذ "توقَّع" دخول العالَم مرحلة صدام الحضارات والثقافات، قائلاً: "إنَّ الثقافة والهويات الثقافية، أي الحضارات بالمفهوم الأوسع، ستكون نمط الصراع والصدام والتفكك في حقبة ما بعد الحرب الباردة".
الصين وروسيا كانتا في غَفْوَة؛ ويبدو أنَّهما قد أفاقتا من غَفْوَتهما؛ وقَبْل أنْ تَفيقا، قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق (ومستشار الأمن القومي) هنري كيسنجر: "ما إنْ تَفيق الصين وروسيا من غَفْوَتيهما حتى يقع الانفجار العظيم؛ وستكون حرباً لن تنتصر فيها إلاَّ قوَّة واحدة هي الولايات المتحدة"؛ أمَّا الرئيس أوباما فأعلن أنَّ الولايات المتحدة ستقود العالَم حتى نهاية القرن الحادي والعشرين؛ وتسعى الصين إلى أنْ تصبح هي القوَّة العظمى في العالم في هذا القرن.. وفي هذا السياق التاريخي وُلِدَت "الترامبية"!