الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية وعالم جديد مخيف ..د. خالد الحروب

الإثنين 02 يناير 2017 11:03 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية وعالم جديد مخيف ..د. خالد الحروب



 

ربما سيؤرخ للعام الجديد 2017؛ كونه افتتح حقبة عالمية جديدة من الصراعات الجديدة والمخيفة واستقطاباً من نوع مختلف، الداعشيات الدينية مقابل الداعشيات القومية الغربية. 
يأتي هذا الاستقطاب نتيجة طبيعية لتدهور السياسة الغربية خلال العقود القليلة الماضية وتفاقم العنصرية في الغرب من جهة، وتكرس الاستبداد الشرق أوسطي والصعود المتنامي للأصوليات الدينية المتطرفة من جهة أخرى. 
في جانب السياسات الغربية، تواصل غض الطرف عن إسرائيل بكونها أحد جذور العنف والصراع في المنطقة، وتواصل إهمال فلسطين والفلسطينيين والظلم التاريخي الواقع عليهم، كما تواصلت الحروب الغربية المدمرة في المنطقة وأهمها العراق (وليس بعيداً منها أفغانستان) بما فرّخ منظمات أصولية عدمية في ردود أفعالها.
إلى جانب ذلك، كانت تحالفات تلك السياسات مع استبدادات محلية خانقة عمقت من العنف المختزن الذي كان ينفجر بجنون في كل فرصة تسنح له. تلك الاستبدادات، أنهكت بلدانها وشعوبها وهمشت وغربت الغالبيات التي أطيحت الفرصة شبه الوحيدة التي تهيأت لها فيما بدا ربيعاً عربياً قد يفتح مستقبلات جديدة للبلدان وأجيالها الشابة. خدم ذلك الإنهاك الذي عزز الإحباط واليأس حركات الأصولية الدينية وتحالف مع الضغوط الخارجية الغربية وتدخلاتها لتنتج داعشيات محلية ومستوردة مدمرة.
نطاق التدمير الذي اشتغلت عليه هذه الداعشيات منذ بروز القاعدة ووصولاً إلى «دولة الرقة» وتجاوز المنطقة اتسع جغرافياً وصار يضرب في كل مكان في العالم يمكن أن يصل إليه، خاصة أوروبا والولايات المتحدة، وتمكنت الداعشية الإسلاموية العابرة للحدود من استثارة العداء والكراهية للعرب والإسلام والمسلمين في طول العالم وعرضه، وساهمت في تسريع قيام القطب الداعشي الغربي المتمثل اليوم في تصاعد القوميات المتشددة في قلب «العالم الحر» والعالم غير الحر! ولم يشهد هذان العالمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشيات الألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية، عودة سريعة ومذهلة للقوميات المتشددة، والعنصرية أحياناً، كما يشهدها الآن. فالمسرح العالمي اليوم مزدحم بحملة ألوية القوميات من كل لون وإثنية: دونالد ترامب يقود سياسة قومية لم يكن لها مثيل في الولايات المتحدة، وبوتين مهووس بالمجد والتاريخ الروسي وقوميته حيث يرى أنها أُذلت مع انهيار الاتحاد السوفياتي ويريد أن يبعثها لتكون الأقوى في العالم، واليمين الأوروبي بمختلف تلاوينه من بريطانيا التي نجح يمينها في استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، إلى فرنسا التي تنحصر المنافسة في الانتخابات المقبلة بين اليمين ويمين اليمين، إلى إيطاليا والنمسا وهولندا التي تتآكل رقعة تعدديتها الثقافية تحت مطارق حزب «من أجل الحرية» اليميني المعادي للأجانب والذي تتسع شعبيته وقوته.
في أوروبا الشرقية الوضع أسوأ بكثير حيث تتصدر السياسة أحزاب شعبوية ذات شوفينيات قومية من هنغاريا وسلوفاكيا إلى بولندا وجمهورية التشيك. 
وفي الصين أيضاً تشير دراسات وتحليلات عدة إلى الهوس بالقومية الصينية والهوية يصل إلى مراحل غير مسبوقة أيضاً، وهذه الظاهرة المعولمة لتصاعد القوميات المتشددة لا يمكن بطبيعة الحال رؤيتها حصراً كرد فعل على الداعشيات الإسلاموية، ذلك أن هناك أسباباً محلية عدة أخرى، مثل: الأزمات المالية والتدهور الاقتصادي وازدياد معدلات البطالة والانغلاق الثقافي والخشية على الهوية والخوف من زيادة معدلات المهاجرين. 
لكن المهم هنا هو أن «قطباً داعشياً قومياً» ليس بعيداً من الفاشية يتشكل بتسارع في أوروبا وأميركا والعالم، ويتوزع هذا القطب الداعشي القومي بين أحزاب مسيطرة على الحكومات أو أحزاب معارضة قوية تسير بقوة وثبات نحو السيطرة على مقاليد الحكم في بلدانها.
في الشرق الأوسط هناك ثلاث داعشيات تتنافس على تدمير المشهد الإقليمي: الداعشية الإسرائيلية بجحافل تيارات وأحزاب المستوطنين المتطرفين ينهلون من رؤية دينية استئصالية والذين يسيطرون عملياً بشكل مباشر على السياسة الرسمية للدولة العبرية، والداعشية السنية ومنظماتها المتطرفة التي تنهل من رؤية مناظرة وتدمر مجتمعاتها قبل أن تصل إلى الآخرين، والداعشية الإيرانية الشيعية التي تدمر دولاً عدة في المنطقة وتفاخر بأنها حرّرت العراق وسورية وتريد أن تحرر اليمن والبحرين (ولا أحد يعرف مِمَّن تحررت هذه البلدان)، بينما للمفارقة الكبرى لا تعلن أنها بصدد تحرير القدس التي يخوض الجيش المسمى باسمها معارك في كل الاتجاهات ما عدا اتجاه القدس! تفترق هذه الداعشيات وتختلف في أكثر من سمة، أهمها أن الإسرائيلية والإيرانية تقودهما السياسة الرسمية للدولتين، بينما تلك الداعشية السنية تقودها تنظيمات وحركات خارجة على القانون وعدمية ومحاربة من معظم الدول السنية، إن لم نقل كلها.
تتبادل الداعشيات المختلفة اليوم، كما ستواصل الفعل ذاته في المرحلة المقبلة المظلمة، الخدمات والتحالفات وتقديم المسوغات لتسعير تطرفها الخاص بها، وكل منها تستخدم ما تقوم به الأخريات كمبرر لحشد الأنصار ونشر الخوف الشعبوي وإثارة مناخ الحرب والكراهية. 
وآلية تخليق الكراهيات المتبادلة هي السمة «المعولمة» الأهم التي تجمع الداعشيات مع بعضها بعضاً، ولنا أن نتأمل بعضاً من السيرورة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، فمن دون اشتغال «داعش» المحلي وتفاهاته وإجرامه في خدمة الحملة الانتخابية لدونالد ترامب لما حلم رجل أعمال يتصف برعونة مذهلة بأن يصل إلى الرئاسة الأميركية، ومن دون سيل الخطابات والسياسات العنصرية التي ظلت تنهال بالأمس واليوم من أمثال ترامب في الولايات المتحدة وأوروبا لما اشتد عود «داعش» وأمثاله.
ليس جديداً القول إن التطرف يغذي التطرف ويقحم الجميع في حلقة مفزعة ومدمرة من العنف والدم الذي لا ينتهي إلا بالدمار الشامل للجميع، وأولهم الغالبيات الساحقة التي تقف تتفرج على المشهد الفجائعي وكأنه لا يعنيها، قبل أن يأتي عليها وينهيها. 
التفجيرات الإرهابية والجبانة فعلاً التي يقوم بها أفراد لا يعرفون هدفاً لحياتهم وينسبون أنفسهم إلى «داعش» تدغدغ وجدان أرباب التعصب الأميركي والأوروبي، لأنها توفر لهم العتاد اللازم لتعميق خطاباتهم وشعاراتهم وبرامجهم المتأسسة على العنصرية. 
وكلما زادت هذه العنصرية الغربية وتعبيراتها الشوفينية والقومية فإنها تخدم الشعارات والخطابات الإسلاموية المتطرفة، سواء كانت داعشية أم قريبة منها، ومع استمرار القصف المتطرف من الجانبين المتطرفين ينجح كلاهما في جذب شرائح جديدة إلى معسكره، سواء مشاركة، أم موقفاً، أو حتى تأييداً صامتاً، ويحصل ذلك على حساب الغالبية التي تقف في الوسط بين معسكرات التطرف ولا تؤمن بنظرية «نحن وهم»، «معنا أو ضدنا»، أو «الفسطاطين». 
خطاب جورج بوش الابن إبان حربه على أفغانستان ثم العراق والمتمأسس على «معنا أو ضدنا» هو ذاته خطاب أسامة بن لادن الذي كان يصرخ على المسلمين بأن يصطفوا معه في فسطاط الحق ضد فسطاط الباطل. ليس هناك حل وسط لا لجورج بوش ولا لأسامة بن لادن ولا لترامب ولا للبغدادي. 
ترامب وداعش اليوم هم حملة الإرث الدموي المدمر لبوش الابن، وابن لادن، بعد خراب مستديم امتد لعقد ونصف العقد. طوال ذلك الوقت والمنطقة الوسطى الرمادية للغالبيات في الشرق وفي الغرب تتعرض لهجمات متواصلة من الداعشية الإسلاموية والداعشية الغربية، كما ستواصلان الانكماش في السنوات المقبلة. 
تنجح الداعشيات في تخصيب مجتمعاتها بخطابات الكراهية والتطرف والحسم بين الأبيض والأسود، وبالنسبة إلى الداعشيات الدينية والغربية يعتبر مجرد الوقوف في المنطقة الوسط جريمة وخيانة.