الاقتصاد في الانتخابات الأميركية ...محمد ياغي

الجمعة 18 نوفمبر 2016 05:38 م / بتوقيت القدس +2GMT



 

 
 
في مقال سابق، قلت إن انتخاب دونالد ترامب، رئيساً للولايات المتحدة، ليس دليلاً على شعبية الأفكار العنصرية التي جاهر بها ترامب خلال حملته الانتخابية، بمقدار ما هي دليل على غضب الشعب الأميركي من سياسات المؤسسة التي تدير واشنطن منذ عقود. 
كان التصويت على انتخاب ترامب، المرفوض من قادة الحزب الجمهوري الذي يدعي تمثيله، تصويتاً احتجاجياً على المؤسسة التي كانت كلينتون تمثلها بحزبيها الديمقراطي والجمهوري، أكثر منه قناعة بما يمثله ترامب من أفكار عنصرية.
لمعرفة حجم الغضب الذي وصل إليه الشعب الأميركي، علينا أن نتذكر الاحتجاجات الضخمة التي حدثت في الربع الأخير من العام ٢٠١١ واستمرت عدة أشهر تحت اسم «حركة احتلال وول ستريت» . هذه الحركة رفعت في حينها شعار « نحن ال ٩٩٪) في إشارة منها الى أن نسبة ١٪ فقط من الأميركيين بيدها معظم الثروة وأن المؤسسة السياسية تقوم على خدمتها. 
بيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي، الذي خسر أمام كلينتون في الانتخابات التمهيدية، اعتمد على هذا الشعار خلال حملته الانتخابية وكان يردد دائماً بأن الوقت قد حان لانتخاب حكومة تمثل جميع الأميركيين وليس فقط الـ ١٪. 
هذا الغضب لم يبدأ حقيقة العام ٢٠١١، ولكنه بدأ مع تبني الحزب الجمهوري لسياسات النيولبرلة الاقتصادية في عهد ريغان مطلع ثمانينيات القرن الماضي: 
تقليص ومن ثم إلغاء الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية، خصخصة أية أعمال تقوم بها الدولة لخدمة مواطنيها، إلغاء أية قيود على اقتصاد السوق ومنع الدولة من التدخل فيه، وتقليص حجم الحكومة أو بمعنى آخر تقليص عدد موظفي الدولة تحت ذريعة أنها ستكون فعالة أكثر بعدد أقل في حين أن السبب الفعلي هو تقليص الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال لأن دولة أكبر ستحتاج الى ضرائب أكثر.
في العام 1979 اقترح الجمهوريون مبدأ السماح لرجال الأعمال الأميركيين بنقل معامل إنتاجهم (مصانعهم) الى أي مكان يريدون في العالم وإعادة الإنتاج الى السوق المحلي الأميركي بدون رسوم جمركية. وفي عهد ريغان بدأت المفاوضات بشأن ذلك مع المكسيك وكندا، واستمرت في عهد بوش الأب، لكن الحزب الديمقراطي حينها والذي كان له الغالبية في الكونغرس رفض المشروع لأنه يلقي بمئات الآلاف من العمال الى سوق البطالة ويتيح لأصحاب الأعمال الحصول على أرباح خيالية بلا فائدة للمواطن الأمريكي العادي. 
عندما تواطأ الحزب الديمقراطي في عهد الرئيس كلينتون مع الجمهوريين وقام بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة، المكسيك، وكندا أو ما يعرف اليوم باتفاقية «نافتا» العام 1994 لم يعد هنالك فرق حقيقي بين الجمهوريين والديمقراطيين.
الاتفاقية كانت بمثابة سابقة سمحت لرجال الأعمال الأميركيين بنقل معامل إنتاجهم ليس فقط الى المكسيك ولكن الى الصين ومعظم دول شرق آسيا، وأصبحت لاحقاً سياسة معتمدة من قبل منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية. 
لم يكن الهدف من الاتفاقية زيادة حجم التجارة العالمية وخلق فرص عمل جديدة كما يدعي مفكرو هذا الاتجاه في الاقتصاد، ولكن تحرير الشركات الكبيرة من القيود على عملها. 
أهم هذه القيود هي قدرة الطبقة العاملة على التفاوض بشأن أجورها. مع السماح لهذه الشركات بنقل معاملها للخارج فقدت الطبقة العاملة إمكانية الضغط على هذه الشركات لتحسين أجورها. اتحادات العمال لم يعد بإمكانها فرض شروطها لأن هذه الشركات أصبحت تهدد بنقل عملها للخارج في حالة القيام بأي إضراب مطلبي. النتيجة كانت ثبات أجور العمال في العقدين الأخيرين في أميركا. ثبات الأجور في ظل الارتفاع الدائم للأسعار، أدى لتآكل الطبقة المتوسطة وتفقيرها.
الكثير من الشركات أيضاً نقلت معاملها للخارج لتحقيق أرباح خيالية حيث الأيدي العاملة الرخيصة وانعدام القوانين التي تحمي العمال في بلدان مثل المكسيك وبنغلاديش وغيرها. هذا بدوره أدى الى إرسال مئات الآلاف من العمال للبطالة. المصانع الأميركية التي انتقلت الى المكسيك لوحدها أدت الى خسارة الأميركيين 700 ألف وظيفة معظمها من ولايات ميتشغان، وتكساس، وكاليفورنيا. 
ثاني أهم هذه القيود هو تحرير هذه الشركات من القوانين الموجدة في أميركا والتي تحمي البيئة وتسمح للعمال وغيرهم برفع قضايا على هذه الشركات في حالة انتهاكها لحقوقهم. 
في دول ينخرها الفساد والفقر لا تحتاج هذه الشركات بأن تقلق بشأن البيئة أو بموت المئات من العمال كما حدث في بنغلاديش العام ٢٠١٣ عندما إنهار مبنى من ثمانية طوابق فيه مصانع نسيج لشركات عالمية. الحادث أدى لمقتل أكثر من ٤٠٠ عامل وجرح المئات، وبالطبع تعويض هؤلاء الفقراء في دولة قوانينها لا تحمي العمال ليس مثل تعويضهم في أميركا أو كندا أو فرنسا. 
بعد أكثر من عقدين على تطبيق مشروع اللبرلة الاقتصادية بحلته الجديدة، لم يعد يشعر قطاع واسع من الأميركيين بأن هنالك فرقاً بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لذلك كان التصويت لشخص من خارج مؤسسات الحزبين لأنه وعدهم بتنظيف واشنطن من الفساد وإعادة الدولة لتأخذ دورها الطبيعي في تنظيم الاقتصاد لمصلحة مواطنيها وليس لمصلحة فئة منهم. 
كما قلت سابقاً، قد لا ينفذ ترامب ترامب أياً من وعوده لناخبيه، لكن الحقيقة تبقى أن الجمهور الأميركي فقد الثقة بالحزبين الجمهوري والديمقراطي. 
الفلسطينيون والعرب عموماً منشغلون بتأثير انتخاب ترامب عليهم وهذا حقهم الطبيعي. الفلسطينيون يريدون معرفة ما إذا كان ترامب سينقل سفارة بلادة الى القدس كما تعهد في حملته الانتخابية، ما إذا كان أكثر أو أقل ضرراً عليهم من إدارة أوباما. والعرب يريدون معرفة نيته فيما يتعلق بسورية، بعلاقته مع إيران، وما إذا كان سيحترم تعهدات بلاده تجاه العديد من دولهم. لكن للمواطن الأميركي جميع هذه القضايا ثانوية.
لا يقلق المواطن الأميركي أن ربع سكان العراق تشردوا بسبب الحرب التي خاضتها بلدهم على بلادهم، ولا يقلقهم حجم الدمار الذي يتعرض له السوريون، ولا معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال. ليس ذلك لأنهم لا يكترثون. الحقيقة أنهم يكترثون مثل جميع شعوب الأرض، لكنها في النهاية ليست أولوياتهم.
العراق أصبح موضوعا مهما لدى الأميركيين عندما قيل لهم أثناء حملة باراك أوباما للرئاسة بأن بلادهم خسرت أكثر من ٦٠٠ بليون دولار في حرب لم تكن من أجل حمايتهم، بينما كان بإمكانها أن تنفقها عليهم.