الحرية وأثرها في نهضة الشعوب والأمم د. أحمد يوسف*

الخميس 17 نوفمبر 2016 04:10 م / بتوقيت القدس +2GMT
الحرية وأثرها في نهضة الشعوب والأمم  د. أحمد يوسف*



إذا تتبعنا حالة الشعوب التي أحدثت نهضة في حياة بلدانها فسنجد بأن الحرية بمفاهيمها المختلفة كان لها نصيب وافر في تحقيق ذلك. نعم؛ قد لا تكون الحرية وحدها أداة النهوض، ولكنها بالتأكيد أحد دعائمه المركزية، ولم تكن الشعوب لتنهض بدونها، فهي أحد وجوه التلازم التي نشاهدها مصاحبة لمسيرة الدول التي حققت ما تصبوا إليه من نهضة حضارية وإبداعات عمرانية، بشكل لا تخطئه عين المشاهد لما هو قائم أو القارئ للصيرورة التاريخيّة وحركة الشعوب والأمم.

سنحاول في هذه الورقة معالجةَ هذه المقاربة لجدلية الحرية والنهضة، من خلال تناولنا لهذا المفهوم في المراجعة التاريخية لتطور الدول والممالك سواء في الشرق أو الغرب، بدءاً من الثورة الفرنسية والشعارات التي رفعتها "الحرية والمساواة والأخوة"، وأسهمت بشكل كبير في تحقيق نهضة القارة الأوروبية، وإخراجها من سطوة الكنيسة والإقطاع إلى فضاء الدولة المدنية والحريات الفردية.. كما كانت تلك الشعارات وتطبيقاتها رافعة للتغيير وحركة الإصلاح السياسي والمجتمعي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل بعض ملامح ما أنجزناه من نهضة لأمتنا العربية والإسلامية في عهود سابقة كانت له جذوره – أيضاً - فيما قدمته فرنسا والغرب في مجال الديمقراطية والحريات الإنسانية.

الحرية والنهضة: إطلالة تاريخية

ما من شيء في الوجود أعزُّ على الإنسان من حريته، وهذا ما حمل كل مفكر أخلاقي في التاريخ الإنساني على مدح الحرية وتمجيدها. وعلى الرغم من شيوع المصطلح وانتشاره، إلا أنه كشأن بقية المصطلحات الكبرى يحمل دلالات وتفسيرات ومعاني كثيرة فاقت المائتين، كما سجّلها مؤرخو الفكر، وذلك لما يستنبطه هذا المفهوم من أبعاد متكاثرة ومتنوعة؛ اجتماعية وسياسية وفلسفية(1).

   في الحقيقة، مع اقتراب تفكّك مؤسسة الرق والعبودية في العالم الإسلامي وانهيارها في حدود القرن التاسع عشر، بدأ مفهوم الحرية يأخذ أبعاداً أشمل وأوسع في المجال التداولي الإسلامي، وأصبح يدل على كل عمل للإنسان يقدر عليه بمشيئته دون أن يصرفه عن عمله أمر غيره، وقد ساعد على شيوع هذا المعنى وانتشاره هو ما حدث من تواصل بين جمع من المفكرين المهتمين بالحداثة الغربية وحركة الترجمة عقب الثورة الفرنسية سنة 1789.. بالطبع، لم يكن استعمال هذا اللفظ اعتباطياً لدى مفكري عصر النهضة، فمن المعلوم بأن الجذر "حرر" في لسان العرب على اختلاف تصاريفه يدل على معان فاضلة مثل: الخلوص والخيار من كل شيء، والفعل الحسن واستقلال الإرادة.

     لقد شكّل مفهومُ الحرية أهم المباحث التي شغلت مفكري عصر النهضة كأداة لبناء الآليات المقاومة للاستبداد والقمع، بعد أن أعطي أبعاداً جديدة تتجاوز ما كان سائداً حول المفهوم في التراث الكلامي والفلسفي والفقهي، إذ كانت معانيه تدور على معنى الجبر والاختيار والقضاء والقدر ومسألة الأفعال في إطار العلاقة مع الله سبحانه وتعالى؛ لتأخذ مضامين أكثر التصاقاً بالمسألة السياسية والاجتماعية والمدنية(2).

كان رفاعة الطهطاوي (1801-1873) من أوائل مفكري عصر النهضة، الذين حاولوا تقريبَ معنى الحرية وإدخاله المجال التداولي العربي، باحثاً عن مماثل في التراث الإسلامي، وتوصل إلى أن ما يسمونه الحرية ويرغبون فيه، هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف.. كان ذلك في كتابه "تخليص الإبريز"، الذي ترجم فيه الدستور الفرنسي آنذاك، وتأثر به كثيراً، ومن هنا جاء تصوره للحرية قانونياً سياسياً في المقام الأول.

وفي كتابه "المرشد المبين"، خصص الطهطاوي فصلاً كاملاً للحرية، أعلن فيه أن الحرية هي مسألة فطرية للإنسان، حيث يقول: إن "الحرية منطبعة في قلب الإنسان من أصل الفطرة"، ويقدم تعريفاً طويلاً ربما يعتبر من أوائل الحدود حول الحرية في عصر النهضة، وذلك لما يحتويه من ذكر أهم أشكال الحرية؛ كالحرية الجسمية والعمل والشخصية والسياسية والقانونية والملكية والرأي، وذلك بقوله: "الحرية من حيث هي رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح ولا معارض محظور، فحقوق جميع أهالي المملكة المتمدنة ترجع إلى الحرية. فتتصف المملكة بالنسبة للهيئة الاجتماعية بأنها مملكة متحصلة على حريتها، ويتصف كل فرد من أفراد هذه الهيئة بأنه حرٌّ يباح له أن ينتقل من دار إلى دار، ومن جهة الى جهة، بدون مضايقة مضايق، ولا إكراه مكره، وأن يتصرف في نفسه ووقته وشغله، فلا يمنعه من ذلك إلا المانع المحدود بالشرع أو السياسة، مما تستدعيه أصول مملكته العادلة.. وعن حقوق الحرية الأهلية، ألا يُجبر إنسان على أن يُنفى من بلده أو يعاقب فيه إلا بحكم شرعي أو سياسي مطابق لأصول ممكنة، وألا يُضيق عليه في التصرف بماله كما يشاء أو لا يحجر عليه إلا بأحكام بلده، وألا يكتم رأيه في شيء، بشرط ألا يخلُّ ما يقوله أو يكتبه بقوانين بلده"(3).

وإذا أخذنا مفكراً آخر مثل خير الدين التونسي، وهو يقدم في كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" تعريفاً للحرية، لا يبتعد كثيراً عن الطهطاوي، حيث يقول: "إن لفظ الحرية يطلق في عرفهم بإزاء معنيين؛ أحدهما يسمى الحرية الشخصية، وهو إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه، مع أمنه على نفسه وماله ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث إن الإنسان لا يخشى هزيمةً في ذاته، ولا في سائر حقوقه، ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس". ويؤكد التونسي على أن هذا المعنى موجود في الشريعة الإسلامية المصونة، وكرجل سياسي عايش السياسة وتقلباتها، فقد تناول ذلك في كتابه الذي صدر عام 1867، من حيث مفهوم الدستور والتنظيمات القانونية الأخرى، والعدل والحرية، وإدانة الاستعباد(4).

ولا يبتعد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في تعريف الحرية عن الطهطاوي، ونجد هذا المعنى عند الطاهر ابن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة"، وكذلك الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه "الحرية في الإسلام"، من خلال المقاربات لمفهوم الشريعة فإننا نجد أننا نركز على عنصر "الإنسانية" كأساس فطري للحرية، ومن أجل هذا التلازم بين الإنسانية والحرية لخّصت الموسوعة الإسلامية الميسّرة تعريف الحرية بأنها: "القدرة على الاختيار بين الممكنات بما يحقق  إنسانيتي"(5).

إن حاجة الشعوب العربية والإسلامية الى النهضة وضرورة التغيير والإبداع لا يمكن أن تنجز دون إعادة الاعتبار لمفهوم الحرية ليصبح ممارسة حية تتجاوز السِّجال والجدال النظري حول الحرية والليبرالية في ظل العولمة؛ باعتبارها مرادفة للهيمنة، والتي تعمل على سيادة "حرية القدرة" على حساب "حرية الإرادة"... ينبغي مراجعة مجمل الأفكار التي وضعها روّاد عصر النهضة والتشديد على ضرورة الربط بين الحرية الفردية والعقلانية والعدل، في إطار المسؤولية الاجتماعية التي تحافظ على الإنسان وتضعه في قلب الأولويات والاهتمامات(6).

 

 

قوانين النهضة: نظرة في أطروحات الإسلاميين

قبل الولوج في أقوال الإسلاميين المعاصرين حول مفهوم النهضة والربط بينها وبين مفهوم الحرية، نجد لزاماً علينا القيام بتعريف مصطلح "النهضة"، من حيث النشأة أولاً، ثم إسقاطات ذلك على ما نود تعريفه بالنهضة الإسلامية.

ومن الجدير ذكره، أن أول استعمال لمصطلح النهضة كان في أوروبا، بعد أن وقعت أوروبا في العصور الوسطى تحت هيمنة رجال الكنيسة على مختلف شؤون الحياة، باعتبارهم علماء في الدين وفلاسفة في القانون الروماني، فحاربوا المفكرين، وحاكموهم بقسوة، واحتكروا زعامةَ المجتمع، فتفشّت فيه الخرافات وعمَّ الجهل، فلم ينتفع الجمهور باللغة اللاتينية؛ لأنها كانت محتكرة لدى طائفة من رجال الكنيسة ولم تكن صناعة الورق، أو فن الطباعة معروفين في أوروبا، ولهدا كان المجتمع الأوروبي متخلفاً ويئن تحت وطأة الإقطاع، ويعاني من ويلات الحروب الإقطاعية والتجزئة السياسية.

أما "عصر النهضة"، فهو مصطلح يطلق على فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وهي القرون من الرابع عشر إلى السادس عشر، ويؤرخ لها بسقوط القسطنطينية عام 1453، حيث نزح العلماء إلى إيطاليا حاملين معهم تراث اليونان والرومان. كما يدل مصطلح عصر النهضة على التيارات الثقافية والفكرية التي بدأت في البلاد الإيطالية في القرن 14, حيث بلغت أوج ازدهارها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر, ومن إيطاليا انتشرت النهضة إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وانكلترا وإلى سائر أوروبا(7).

إن النهضة بمفهومها الخاص، وبالاعتماد على مفاهيم عصر النهضة الأوروبية، هي حركة إحياء التراث القديم، حيث إن كلَّ كبوة بعد تطور حضاري تحتاج إلى نهوض.. أما بمعناها الواسع، فهي عبارة عن ذلك التطور القديم في كل من الفنون والآداب والعلوم، وطرق التعبير، والدراسات، وما صاحب ذلك من تغير في أسس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية. وهى عملية فكرية تتجاوز انغلاق فترة زمنية سابقة(8).

النهضة الإسلامية: المفهوم والمصطلح

لا يوجد حتى الآن تعريف واضح للنهضة الإسلامية، فكلمة النهضة – دون ربطها بالإسلام مبدئياً – شغلت الأذهان منذ مطلع القرن العشرين، ولا زالت بحسب الدكتور جاسم سلطان.

فهل نحن بحاجة إلى نهضة علمية؟ هنا، يتم الخلط مع العلمانية، أم نهضة حضارية لإحياء الحضارة الإسلامية؟. ورغم المعنى المتداول لغة وهو القيام من القعود، إلا أن السؤال حول المعنى لا يزال قائماً، وخاصة حينما يحتدم الجدال والأخذ والرد عن مصاديق النهضة أو تحققها في أرض الواقع في هذا القطر أو ذاك، وهل هي نهضة عربية لاستعادة أمجاد الحضارة العربية أم إسلامية لاستعادة أمجاد الحضارة الإسلامية؟!(9).

ويزداد الأمر تعقيداً عند استخدام مقاربات أخرى مثل التنمية ومحاربة التخلف أو التقدم والتقدمية ومحاربة الرجعية أو الترقي أو التجديد الديني أو تحقيق مبدأ الاستخلاف. وازداد الجدال - مؤخراً - مع  بلورة مصطلح ما يعرف بالفكر الإسلامي والمفكرين الإسلاميين، الذين اهتم كثير منهم بما يشار له اليوم بالنهضة الإسلامية، حيث بدئوا بطرح مفاهيم النهضة متأثرين ولو قليلاً بالتصور الأوروبي؛ لأن مفهوم النهضة - أصلاً - انطلق في الغرب، كما في فكر مالك بن نبي أو مشروع النهضة للدكتور جاسم سلطان. ويأخذ الأمر منحى تنموياً وسياسياً عند تناوله مما بات يعرف بالتيارات الإسلامية أو تيارات الإسلام السياسي، كمشروع النهضة، الذي تقدم به حزب العدالة والحرية الجناح السياسي للإخوان المسلمين في مصر أو استعمال الاسم كحزب النهضة في تونس أو غيره. لكن ما يزال الوضع غير مبلور تماماً، وفي حالة من البحث عن الفكر النهضوي ومدى علاقة النهضة بالدين الإسلامي(10).

وكون نهضة أوربا كانت بمثابة "ثورة على موروث ديني". لذلك، ظل هذا المفهوم يلقي بظلاله على مفهوم النهضة عندنا، وبالتالي تمثلها أصحاب الفكر القومي أو العلماني بالثورة على المرجعية الدينية والتحول إلى العلمنة، وفصل الدين عن الدولة، باتجاه تنمية اقتصادية وبشرية تشمل المسلمين وغيرهم، حسب مبدأ الدين لله والوطن للجميع. وتمثلها التيار ذو التوجه الإسلامي بالثورة على التقليدية والخرافات التي أُقحمت في الدين مع توسيع مفهوم التقليدية وتضييقه، وبالتالي يجب القضاء أو تنقية الموروث الديني مما لحق به من عادات وتقاليد ومفاهيم لا إسلامية(11).

في الحقيقة، إن النهضة حتى وإن سميت نهضة إسلامية إلا أنها عمل فكري، وليس من الضروري للمفكر الذي يشتغل بالنهضة أن يدرس الإسلام بشكل ممنهج، فهو لا يفتي والقدرات العقلية والثقافة الواسعة للمفكرين كافية ليقوموا بدورهم النهضوي؛ فللعالم دور وللمفكر دور مختلف، ومن ثم يكمل بعضهم بعضاً، والنهضة إنما هي عمل فكري ينتج فكراً يتبناه سياسيون واقتصاديون. وقد ربط البعض من هذا الفريق بين النهضة ومفاهيم التنمية البشرية وبناء القدرات، كأحد عوامل النهضة، وميز آخرون بين النهضة والتنمية، وأن التنمية وسيلة من وسائل النهضة المتعددة، وليست هي النهضة.. لكن مع ذلك، لم يتمكّنوا من بلورة معنى واضح للنهضة(12).

 

 

النهضة في سياقاتها المعاصرة: تجارب قائمة

السؤال الذي يطرح نفسه على كلِّ من ينشد الإصلاحَ والتغييرَ في عالمنا العربي والإسلامي، أو يفكر في وضع أمته على خارطة الشعوب والأمم، ويبحث لها عن مكانة مشرقة تحت الشمس، هو: كيف نهضت ألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، وما لحق ببلدانهما من تبعية ودمار؟ وكيف تقدّمت كوريا الجنوبية وسنغافورا والصين والبرازيل لتتحول إلى مراكز صناعية وتجارية عالمية، وتضع لها مكانة بين الشعوب والدول المنافسة للغرب؟

نعم؛ ما تزال أغلبُ شعوب أمتنا تعيش ثقافة "تقليد المغلوب للغالب"، واستشراء عقلية "القابلية للاستعمار"، والتي حاول المفكر الجزائري مالك بن نبي معالجتها في نهاية الأربعينيات في كتابه (شروط النهضة)، ولكن – للأسف – فإن أنظمة الاستبداد أحكمت قبضتها على شعوب أمتنا، وقيَّدت حريتها، وحرمتها بذلك من النهوض.

صحيح، أن كل دولة لها قصتها في النجاح، لكنَّ نهضتها لم تكن لتتحقق لو غابت فيها الحريات، وضاعت كرامة الفرد، وهدرت إنسانيته. هذه أبجديات ربما نتلمس ذكرها عند تناولنا لتجارب النهضة في بعض دولنا الإسلامية كتركيا وماليزيا.

من عاش منَّا في الغرب يدرك قيمة الحرية وأثرها على إمكانيات الفرد وقدراته على التميز والإبداع، وأنه لولا الحريات التي أتاحها الغرب لمواطنيه، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الثقافية والعرقية، لما نهضت أمريكا، والتي كبّلتها لعقود طويلة الطبقية (أسياد وعبيد، أبيض وأسود). ففي الخطاب الذي ألقاه "إبرهام لينكولن"؛ الرئيس السادس عشر لأمريكا، بعد انتهاء الحرب الأهلية في نوفمبر من عام 1863، والتي استمرت قرابة خمس سنوات بين الشمال والجنوب، والمعروف بـ"خطاب جيتيسبيرغ"، حيث أكد فيه على قيمة الحرية لاجتماع الشمل ونهضة البلاد،  وذكر بأن الأمة لم تولد في عام 1789، ولكن في عام 1776، وكرَّس مقولة "إن كلَّ الناس خلقوا متساوين". وقد عرَّف لينكولن الحرب بأنها جهد مكرَّس لمبادئ الحرية والمساواة للجميع، وأن تحرير العبيد أصبح جزءاً من جهد الحرب الوطني، وأعلن أن وفاة هذا العدد الكبير من الجنود الذين سقطوا على مذبح الحرية لن يذهب سدى، وأن الرق سينتهي، وأن المستقبل سيكون للديمقراطية، وسيكون الحكم للشعب ومن الشعب. وختم لينكولن كلمته التاريخية بالقول: "إن الحرب الأهلية كان لها هدف عميق، ألا وهو ولادة جديدة للحرية في الأمة"، حيث تمَّ شطب القوانين التي تحمي العبودية في الدستور، والتأكيد على المبادئ التي ترفع من قيمة الحرية وتعززها في الثقافة الأمريكية.

كانت هذه هي المحطة الأولى التي انطلقت منها نهضة أمريكا، إلى أن بلغت أوج مكانتها؛ باعتبارها الدولة الأعظم في العالم، وذلك بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية.

واقعنا العربي والإسلامي: محاولات بين النجاح والفشل

لا شكَّ أن الكثير من الإسلاميين، وخاصة أولئك الذين كان لهم فرصة الاحتكاك بالثقافات الغربية أو احتضنتهم حواضرها لاعتبارات الدراسة أو طلب الأمان والتوسع في الرزق، كانت لهم رؤيتهم لواقعنا العربي والإسلامي وأسباب التخلف والانحطاط التي مرت به المنطقة في عهد ما بعد الاستعمار، حيث كان الاستبداد، وتسلّط العسكر، وتغييب للحقوق والحريات.

ففي تقييمه للحالة العربية، كتب د. سهيل الغنوشي؛ الناشط السياسي في أمريكا، أنه "مرّ أكثر من قرن والعرب يحلمون ويوعَدون بالنهضة والإصلاح. تنوّعت الأطروحات والزعامات وتكرّرت المحاولات، وفي كل مرة تخيب الآمال وتتحطّم الأحلام ولنفس الأسباب: حسابات خاطئة وخطط ارتجالية، وأداء هزيل لنخب نرجسية وانتهازية تستبيح كل شيء في صراع وجودي لاحتكار السلطة بلا ضوابط ولا محرّمات، سرعان ما يتمخّض عن هيمنة وإقصاء، يقابلهما خضوع تحته تربّص وتعويق ومراهنة على الفشل، وتَطَبّع المغلوب بطباع الغالب، وارتهان الفرقاء والبلاد للخارج، مما يفتح الثغرات ويستدعي الأطماع والمؤامرات، وتُدار البلاد بالترقيع والمسكنّات وتتدحرج نحو الاستبداد والتبعية والفساد(13).

وفي إشارة توضيحية لقيمة الحرية، كتب الأستاذ معاذ الجبوري، قائلاً: "إن السنن الكونية لا تحابي أحدًا، فمن يمتلك مقومات النهضة سينهض، وعليه أن يحافظ على مقوماتها وأسبابها لكي يحافظ على نهضته ونجاحه، والحفاظ على النجاح أصعب من تحقيقه"(14).

"وأضاف: فكما تصدّرت الأمة الإسلامية العالم لعدة قرون بسبب تحقيق مقومات النهضة، وتراجعت - الآن - بسبب عدم محافظتها على تلك المقومات، فيما تقدمت الأمم الأخرى لأنها امتلكتها، فالتاريخ لا يرحم أحدًا؛ لذلك أرى أن أية أمة تريد أن تنهض فلا بدَّ من توفر المقومات التي تتميز بها الأمم المتقدمة، وأولها الحرية؛ كونها من أهم مقومات نهضة الأمم، فالأمم والشعوب الحرة هي الأقدر على الصدارة وعلى الإبداع والتمييز والانفتاح في جميع مجالات الحياة، والشعب الحرّ تكون تحركاته منضبطة بضابط ذاتي وأخلاقي بدافع داخلي بدون تأثير خارجي يفرض عليه ما يريد، بعكس الأمم والشعوب التي تعيش تحت العبودية والظلم والطغيان تكون عاجزة وضعيفة، وغير قادرة على الإبداع والإنتاج، إلا في الحدود التي يسمح بها الطغاة وتغلق العقول والأفواه إلا بما يُرضي أصحابَ القرار والقيادة لهذه الشعوب، والتي غالباً ما تستخدم القوة والترهيب للسيطرة على شعوبها كما هو واقع أغلب الدول العربية والإسلامية"(15).

تركيا وماليزيا: نهضة الرجل الرشيد

إن إطلالةً على نهضة ماليزيا البلد الذي خرج من حالة استعمارية في بداية الستينيات، محدود الموارد والإمكانيات، ومتعدد الأعراق والديانات وبخلفيات ثقافية مختلفة، كانت المؤشرات سلبية باتجاه فرص النهوض. ومع مجيء مهاتير محمد بدأت الحياة والأفكار تتغير، وفي خلال سنوات حكمه التي استمرت لعقدين من الزمن استطاع إنهاض ماليزيا ووضع لها مكاناً بين النمور الآسيوية الكبرى (الصين واليابان سنغافورا وتايوان)، وهي تحتل المرتبة الرابعة في اقتصاديات آسيا، وبمعدل نمو مطرد.

أما تركيا الدولة التي كانت على وشك الإفلاس عام 2000، فقد كان فوز العدالة والتنمية الباهر كحزب سياسي وليد عام 2002، وبروز رجب طيب أردوغان كرئيس لهذا الحزب، ثم رئيساً للوزراء، حيث بدأت تركيا نهضتها المعاصرة، والتي أوصلتها خلال عشرة سنوات لتصبح اقتصادياً الدولة رقم 16 عالمياً، والسادسة على مستوى القارة الأوروبية، وتخلّصت من كلّ ديونها للبنك الدولي وأصبحت تقدم القروض للدول النامية.

إن أردوغان نجح في بناء تركيا الحديثة التي تأخذ بالعملية الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان، ويتمتع مواطنوها بالحرية بعيداً عن دولة العسكر التي سبق أن حُكمت بالانقلابات، فتركيا اليوم وتحت قيادة أردوغان هي محط أنظار العالم في تقدمها ونهضتها الاقتصادية والعمرانية والتعليمية، والتي تهفوا إليها أفئدة العرب والمسلمين ويعتبرونها محجتهم السياحية والاستثمارية بدل الدول الغربية.

وبمراجعة ما كتبه مهاتير محمد عن نهضة بلاده، وأيضاً ما صدر من كتب عن تركيا أردوغان، فسنجد أن البساط لهذه النهضة كانت ترفرف على جنباته رايات الحرية التي تملكها الفرد والمجتمع بامتياز.

ختاماً: هل لنهضتنا من سبيل؟ 

من أجل أن نضع أقدام أمتنا على الطريق، فإنه يتوجب علينا قراءة "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟"، والذي سبق أن كتب فيه شكيب أرسلان منذ زمن طويل، وأيضاً ما تناوله د. عبد المجيد النجار؛ المفكر الإسلامي التونسي، في كتابه "دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين"، ولخصته العبارة الآتية: "بالنظر إلى الواقع الإسلامي المعاصر، نجد أن فقدان حرية الرأي وراء كثير من أسباب التخلف في معظم البلاد في هذه الأمة، ولعل ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي سنة 1901، في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، يعني كثيراً في فهم أثر الاستبداد على جميع مناحي حياة المجتمع، وكيف أنه يقلب الفعالية ضعفاً والقدرة عجزاً، ولا ينتج الاستبداد إنسان حضارة، وإنما يربي آلة تدور في فلك نظام سياسي تفعل كل شيء، من أجل الحفاظ على البقاء العضوي والبيولوجي للإنسان.. ومن هنا، فإن محاولة إعادة البناء والإقلاع الحضاري تستلزم بداية البحث عن أخطر العلل أو العوامل المضادة للفعل الحضاري ومعالجتها، ولعل حرية الرأي تعد شرطاً موضوعياً ضرورياً لمعالجة جميع القضايا الأخرى فلا يكون هناك أثر وفعالية لأي شيء دون حرية التعبير والنظر والتفكير والتداول حول كل قضية جزئية"(16).

في الحقيقة، إن القراءة المتأنية لمسيرة الشعوب والدول التي سجّلت نجاحات منحتها مكانة تحت الشمس وأهلية بين الأمم، توضح لنا بأن النهضة العلمية لن تتحقق بدون الحرية الفكرية، فالشعوب المكبلة بأغلال الظلم والاستبداد لن تصنع تنمية وإبداعاً، والدول التي تحكمها الدكتاتوريات هي طاردة للطاقات ومجتمعاتها استهلاكية، وليس مستغرباً أن بلادنا العربية بالرغم من ثروات البترودولار ما تزال متخلفة، ونسب الأمية والبطالة فيها عالية، ومعدلات التنمية تتحرك ببطء شديد.

أعطني حريتي اطلق يديَّ، ليس لحناً للنغم والطرب؛ بل هو صرخة الشعوب لتنهض ببلادها. إن في الكثير من الدول الغربية التي شهدت نهضة صناعية كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، هناك مئات الآلاف من العقول العربية والإسلامية التي توطّنت تلك الحواضر؛ لأنها لم تجد فرصة الحرية والأمان متاحة في بلادها، فكانت الهجرة التي هيَّئت لها كل عوامل النجاح.. وبحسب بحث صدر سنة ٢٠١١ م، فإن ٥٠% من الأطباء، و٢٣% من المهندسين و١٥% من العلماء في البلدان العربية يهاجرون، متجهين بوجه الخصوص إلى أوربا وأمريكا الشمالية. كما أن ما يقرب من ٥٤% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم(17).

 لا شكَّ بأن "نزف العقول" أو "هجرة الأدمغة" من الدول العربية باتجاه الغرب لغياب الحريات وفرص العمل الكريمة، يقف – حقيقة - وراء حالة التخلّف التي عليها أمتنا، باستثناء ما نشاهده في بلدين نعتز بنهضتهما وهما: تركيا وماليزيا.

إن علينا أن ندرك بأن الحرية هي القاسم المشترك بين كل الدول التي تمكنت من بناء نهضتها، فالحرية على المستوى الفردي والجماعي هي القوة الدافعة وراء نجاحات الدول في تطوير قدراتها التنموية وتشجيع الأفكار الإبداعية وتحقيق التميز.

إن التلازم بين الحريات ونهضة الشعوب والأمم هي المعادلة التي ما تزال تفتقد فهمها القيادات الحاكمة في دولنا العربية والإسلامية؛ فالحرية أولاً، وهي باختصار شديد ترياق نهضة الشعوب والأمم.

 

 

الهوامش:

  1. مفهوم الحرية في فكر عصر النهضة العربي، صحيفة الغد الأردنية، 14 يناير 2005م.
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر نفسه.
  4. المصدر نفسه.
  5. المصدر نفسه.
  6. المصدر نفسه.
  7. صلاح الدين الحسني، تعريف النهضة الإسلامية، 6 فبراير 2014م.
  8. المصدر السابق.
  9. الأستاذ أحمد الشيخ نور، النهضة الإسلامية دعوة للانطلاق، 13 سبتمبر 2015م.
  10. المصدر السابق.
  11. المصدر نفسه.
  12. المصدر نفسه.
  13. د. سهيل الغنوشي، هكذا تنهض الشعوب والأمم، الجزيرة نت، 22 مايو 2013م.
  14. معاذ الجبوري، خمس مقومات أساسية لنهضة الأمم، 14 مارس 2016م.
  15. المصدر السابق.
  16. د. عبد المجيد النجار، ص: 21.
  17. سلام الكواكبي، "الهجرة الدولية والتنمية في بلدان الإسكوا: التحديات والفرص". نيويورك: الإسكوا. صفحة ٧١. اطلع عليه بتاريخ ٣١ مارس ٢٠١٤ م.

 

 

المراجع:

  • أ. د. محمود زايد المصري، الحرية أولاً: خواطر في التاريخ والسياسة، دار المعارف، القاهرة، 2014م.
  • عمر الرفاعي، خطابات محاضير محمد، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2007م .
  • جاسم محمد سلطان، قوانين النهضة: القواعد الاستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري، مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع، المنصورة، 2005م.
  • د. عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)، فرجينيا/أمريكا، 1991م.
  • مالك بن نبي، شروط النهضة، وزارة الفنون والثقافة والتراث، كتاب الدوحة- قطر، 1960م.
  • نواف القديمي، الإسلاميون: سجال الهوية والنهضة، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء – المغرب، 2008م.
  • د. ماهر الشريف، رهانات النهضة في الفكر العربي، دار المدى للثقافة والنشر، 2000م.
  • عطيات أبو العينين، مهاتير محمد: رائد النهضة الماليزية، دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، الدقي ـ مصر، 2010م.
 

* المستشار السياسي لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية، ووكيل وزارة الخارجية الأسبق، ورئيس مجلس أمناء مؤسسة بيت الحكمة. هذه الدراسة تمَّ تقديمها لمؤتمر "فقه الحريات" بكلية الدعوة، التابعة لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، بتاريخ 8 نوفمبر 2012م.