خبر : 68 عاماً على إنشاء إسرائيل: العودة إلى نقطة البداية ...حسين حجازي

السبت 14 مايو 2016 10:58 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

 

كتب بن غوريون، وكان هذا رجلاً يحرص على تسجيل كل ما يجري من أحداث، بما في ذلك خواطره وانطباعاته حولها بحساسية واضحة إزاء التاريخ، عن شعوره بالصدمة غداة انشاء الدولة من اكتشافه المبكر بمدى التشوه الأخلاقي والفساد الذي يعاني منه ما كان يسمى «الييشوف اليهودي». وقد تحول الييشوف في عهده الى دولة، والدولة في عهد خلفائه الى قوة احتلال غازية وتوسعية، بدا لحين من الزمن كما لو أنها قصة نجاح باهرة ومدهشة لا تقهر في أعيننا نحن أعداءها كما في أعين العالم، كواحة واعدة في صحراء قاحلة من التخلف والعداوات لشعب صغير ومجتهد من الأوروبيين والبيض الجدد، يعلمون الشعوب الأخرى الزراعة الحديثة ونظام الحكم الديمقراطي والشفافية وحتى فنون الحرب والقتال، كما لو انها اسبرطة الجديدة.
لكنهم في البداية كأخيل وفي النهاية مثل ابيقور؟ ام ان النهايات هي الصورة المأساوية التي تختزل بالاخير جوهر ما هو كائن أصلا في هذه البدايات؟ تحت ما يسميه هيغل تمظهرات الجوهر او الواقع. بحيث تبدو الجملة او الكلمة الموازية للكلمة التي سجلها بن غوريون العام 1949، هي الكلمة التي صرح بها الجنرال يائير غولان قبل أيام عن الحقيقة الصادمة من انتهاء هذه الدولة، التي لم تنشأ بصورة طبيعية كتطور طبيعي للتماهي مع الجلاد، جلادها القديم النازي، قبل ان يتحول المهاجرون الغزاة من الخارج الى دولة.
لعل جذر الازمة كان منذ البداية يصدر عن هذه المحايثة في نشوء الدول والعمران الذي يتحدث عنه ابن خلدون، وحيث هذه دولة من بين ثلاث دول حديثة صنعت من الخارج، من خارج السياق لعوامل التطور الداخلي او الطبيعي، وهذه الدول الثلاث هي الولايات المتحدة الاميركية ودولة البيض في جنوب افريقيا ثم إسرائيل. وان هذا المشترك في عناصر الازمة بين إسرائيل وجنوب افريقيا انما هو الذي يجعل المقاربة الراهنة في النظرة الى المصير المشترك لهما بين الدولتين، يلقى تأييدا قويا من مجريات الواقع بعد ان فشل المهاجرون البيض في جنوب افريقيا، والييشوف اليهودي كلاهما معا في إبادة وافناء السود الافارقة والفلسطينيين السكان الأصليين. مقارنة بما جرى من افناء الهنود الحمر في أميركا والذين لم يكونوا يمتلكون هذا الشعور العميق والمعقد بالهوية، على غرار الفلسطينيين والسود الجنوب افريقيين.
اما حل الدولتين او هو خيار الدولة الواحدة التي يذوب فيها اليهود في محيط كاسح من العنصر العربي، يملك سطوة استقامة الهوية العروبة والإسلام؟ او ليس هذه هي المقارنة المفاضلة بين البدائل والخيارات التي تطرح امام إسرائيل؟ وهو التعبير الآخر الذي يجسد اصطدام الدولة المشروع بأزمتها الأصلية الكامنة؟
والواقع أنه بعيداً عن إشكاليات تمظهرات هذا الواقع الأخلاقية او جذور الأزمة الأصلية، فان قصة النشوء والتحولات اللاحقة على مدى ما يقارب العقود السبعة اليوم في مسار او قصة هذه الدولة، انما هي الجديرة بالتأملات ونحن نقف مرة أخرى عند ذكر هذين الحدثين، إقامة إسرائيل والنكبة الفلسطينية. 
ولعل السؤال المفتاح والمطروح على بساط هذا البحث والتأمل، هو نفسه عما تبقى من الحلم الأميركي كما الحلم الصهيوني، وان كانت إسرائيل تمثل استثناء او خروجا عن القاعدة التي كان ابن خلدون اول من تحدث عنها، أي قاعدة او قانون الصعود والهبوط التمدد والانكماش ثم الضمور والموت؟ والجواب هو كلا. 
ولعل المقترح هنا هو إعادة رسم وتجديد هذه التحولات بتقسيمها زمانيا الي حقبتين رئيسيتين، الحقبة الأولى وتمتد طوال الأربعين عاما الأولى أي من العام 1948 الى العام 1988، ونحن نشهد في هذه الحقبة سلسلة القفزات والانتصارات المدهشة التي حققتها إسرائيل في ذروة مرحلة صعودها وتمددها، والتي استغرقت الثلاثين عاما الأولى من حكم حزب العمل منفردا، والسنوات العشر الأولى من الانقلاب الداخلي وصعود حزب الليكود.
تبرز حرب حزيران 1967 كذروة هذه الانتصارات الحربية والتوسعية، وباعتبارها نقطة التحول الحاسمة التي ستؤدي نتائجها فيما بعد الى اعتراف العرب وإقرارهم بحقيقة وجود إسرائيل، والسعي الى عقد السلام معها وتقلص طموحات الفلسطينيين بتحرير كل فلسطين. 
وبهذا المعنى فان نتائجها هي التي ستكون الأخطر من حرب العام 1948، لا على الجانب العربي الفلسطيني ولكن على إسرائيل نفسها، اذا كان هذا التمدد نفسه هو ما سيجعلها اكثر انكشافا للعطب لاحقا، ومن ثمة التراجع والانكماش حينما تبدو إسرائيل عند هذه الذروة. وكما كتب لاحقا دايان في مذكراته وكانها تبلغ الحد الأقصى في استنفاد قوتها في هذا الصعود الذي يصل بها الى قمة الجبل، وما بعد ذلك هو الهبوط وهو هبوط تدريجي لن يشبه الجرف الحاد وانما نوع من السيرورة التدرجية وغير المرئية في معظم الأحيان، 
وان هذا هو الخط البياني طوال العشرين عاما التالية في التراجع والنزول الذي يبدأ من حرب تشرين العام 1973، مرورا بحرب لبنان العام 1982، وصولا الى الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987.
ان الحقبة الثانية سوف تؤسس منذ الآن على هذا الحدث التاريخي قرب نهاية العام 1987، كما على الحرب مع حزب الله في جنوب لبنان. وبينما نشأ عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عقد أول اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، الا ان الدلالات التي حملها هذا التحول هو عودة الصراع بين الطرفين الى نقطة بدايته الأصلية في الجغرافيا أي الأرض الفلسطينية، وبالتالي إعادة فتح هذا الصراع وعودته الى الوضع الذي كان سائدا قبل العام 1948، وكأنما ما حدث في هذه الحرب لم يغلق وأعيد فتحه من جديد. وان هذا التحول غير المسبوق هو مغزى الحرب الأخيرة التي سيقودها عرفات في الانتفاضة الثانية المسلحة فيما يشبه حرب الاستقلال الفلسطينية في عنفوانها، وصولا الى حروب «حماس» وغزة العسكرية تماما مع إسرائيل في غضون السنوات الأخيرة.
ان العلامتين البارزتين هنا في هذه الحقبة، انما هما الهروب المذل في أيار العام 2000 من جنوب لبنان أمام حزب الله في أول هزيمة واضحة بل ماحقة للجيش الإسرائيلي امام قوة عربية. أما الشاهد الثاني فهو الانسحاب المذل الأخر من غزة وما رافقه من هدم المستوطنات نفسها التي أقامتها إسرائيل.
هناك سوف يبدو واضحا منذ الآن ان إسرائيل لم يعد بمقدورها تحقيق الانتصارات السهلة والمدهشة على أعدائها لا فرادى ولا مجتمعين، ولكن لعل التحول الأهم في غضون هذه الحقبة الأخيرة هو تآكل قوة إسرائيل على عقد التحالفات الاستراتيجية كما في الحقبة الأولى، وإذ يمكننا هنا ان نرسم خطاً تصاعدياً يبدأ بالتحالف مع بريطانيا ثم الانقلاب على بريطانيا واستبدالها بفرنسا في عقدي الخمسينات وأوائل الستينات، ومن ثم الانقلاب على فرنسا العام 1968 بعد قصف مطار بيروت الذي استفز الفرنسيين. ومن ثم هذا التحالف الأخير مع أميركا بعد العام 1967 ، فهل التصدع الحالي الذي نسمع صداه في السنوات الأخيرة من عهد إدارة أوباما كما يتردد صوته في الحملات الانتخابية الأميركية اليوم، إنما هي التعبير السياسي الأكثر دلالة على نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة في سياق هذه السيرورة التي بدأت قبل 68 عاما، فيما يشبه قصة نجاح. وها هي تنتهي الى الفشل اذ قل لي من بعد أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا من حليف او نصير لإسرائيل؟ وإذا كانت يقظة الغرب والعالم والتي تشبه الصحوة السياسية والأخلاقية من حول القضية الفلسطينية والمظلومية الفلسطينية، انما هي التي تمثل اليوم الاتجاه او الموجة الكاسحة في الوعي العالمي، وهو الوعي الذي يطرح المعادلة أو الخيار أمام إسرائيل على النحو التالي، إما دولتان أو دولة واحدة، إما العودة الى حدود 1948 أي نقطة البداية أو هي إزالة هذا الخط الذي حدد في العام 1948 ؟ ولطالما سمي بالخط الأخضر، وبالتالي نهاية حلم إقامة إسرائيل اليهودية النقية كما حلم الصهاينة الأوائل وبن غوريون.