خبر : توحش الصراع ... عبد الغني سلامة

الإثنين 08 فبراير 2016 02:33 م / بتوقيت القدس +2GMT



قبل أيام، مررتُ بحاجز «عتصيون» قرب بيت لحم؛ في وسط الجزيرة التي تفصل تقاطع طرق رئيسة، ثمة جندي إسرائيلي مقنَّع، يعتلي برجاً، يحمل بندقيته الآلية ويصوبها باتجاه المارة، وهو على أعلى درجات التأهب، لدرجة أن أي حركة قد يأتيها أي راجلٍ أو راكبٍ لسيارته قد تؤدي إلى مقتله على الفور .. هكذا بكل بساطة؛ إذا عطس، أو وضع يديه في جيوبه، أو رغب بحك مؤخرته، سيعتبرها الجندي محاولة للطعن، ولن يتردد بإطلاق النار عليه، وسيمنع بقية الجنود أية محاولة لإسعافه، سيتركونه ينزف آخر قطراته بلا أدنى مشاعر .. ويتكرر مثل هذا المنظر المرعب عند عشرات الحواجز على جميع مفارق الطرق التي تصل مدن الضفة ببعضها، وللتأكيد على فظاعة المشهد؛ فقد أطلق بالفعل هؤلاء الجنود النار على عشرات المواطنين، وأردوهم بدم بارد، وتركوهم مضرجين بدمائهم، مع تهمة جاهزة: محاولة للطعن!
معظم الشهداء الذين سقطوا بهذه الطريقة، لم يكونوا سوى عابرين في طريقهم لمتابعة تفاصيل حياتهم اليومية، وحتى الحالات التي كانت بالفعل محاولات للطعن، كانت على أيدي أولاد وبنات بعمر الورد، ولا يشكلون أي خطر حقيقي على حياة الجنود، حيث كان بوسعهم ردعهم، واعتقالهم بكل سهولة .. لكنهم استسهلوا قتلهم ..
في عملية «السافوي» (1975) والتي أدت لمقتل وجرح عشرات الإسرائيليين، بقي الفدائي «موسى طلالقة» مختبئاً تحت الأنقاض، وقد ظن الجنود أنه ميت، وما أن اقتربوا منه حتى بدأ بإطلاق النار عليهم، فأصابوه ثم اعتقلوه. وأيضا، في عملية الساحل (1978) التي قادتها «دلال المغربي»، تمكّن الأمن الإسرائيلي من قتل الفدائيين، لكنه اعتقل آخر إثنين منهم، اعتقلتهم وهم في حالة اشتباك حقيقي وخطير، أسفر عن مقتل نحو 40 إسرائيليا وإصابة المئات .. وحتى أنه أفرج عنهم فيما بعد ضمن عملية تبادل للأسرى، كما افرج عن «طلالقة» و»سمير القنطار» الذي جُرح أثناء اشتباكه مع الجيش، والأمر تكرر في عشرات الاشتباكات الأخرى ..
وفي العام 1986، اختطفت مجموعة من الجبهة الشعبية الباص 300 وهو في طريقه من تل أبيب إلى عسقلان، وعلى أبواب دير البلح، أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على الباص وأنهت العملية، وقتلت منفذيها، واعتقلت أحدهم، لكنها زعمت أنهم جميعا قُتلوا خلال الاشتباك، إلا أن صورة للفدائي ظهرت وهو مقيد اليدين فجّرت فضيحة في الأوساط الإسرائيلية ظلت تتفاعل لأكثر من ربع قرن، وتم توجيه انتقادات لاذعة للشاباك بأنهم تورطوا بإعدام مواطن كان معتقلا بين أيديهم .. السؤال المطروح: ما الذي تغير على إسرائيل ؟ هل توحشت أكثر، وفقدت آخر ذرة عقل لديها ؟ أم أنها أساسا متوحشة، وبلا عقل، والآن بدأ يتكشف وجهها الحقيقي ؟
إسرائيل، ومنذ نشأتها (التي قامت أصلا على مذابح دير ياسين وقبية والدوايمة)، وهي تمارس القتل والقمع والتنكيل، وهدم البيوت ومصادرة الأرض، وقصف المناطق السكنية ... وهي جميعها جرائم حرب، ولكن جيشها، ورغم دمويته وفظاعة جرائمه، ظل إلى حد ما منضبطاً بقدر معين من العنف، تتصاعد وتتراجع حدته وفق أوامر عليا، وظل الصراع إلى حد ما متعقلا: نضربهم بالحجارة ويطلقون علينا الرصاص المطاطي، وأحيانا يتصاعد الصراع بشكل أكثر عنفا .. لكن في الآونة الأخيرة بدا الجيش منفلتا من أية ضوابط، وصار قتل أي فلسطيني (حتى لو كان طفلا) أمرا عاديا لا يستوجب أي مراجعة !
هل يعود هذا لتساهل المجتمع الدولي مع جرائم إسرائيل ؟ أم بسبب حالة الضعف العربي والفلسطيني ؟ أم لتقاعس السلطة الوطنية عن واجبها في التوجه للمحاكم الدولية ؟ ولكن، منذ متى كان المجتمع الدولي حازما أو عادلا إزاء ممارسات إسرائيل ؟ ومتى كان العرب والفلسطينيون أقوياء لدرجة تجعل إسرائيل تتوقف عن جرائمها ؟ ومتى كانت إسرائيل تأبه للمحاكم والمنظمات الدولية ؟ من يمتلك الإجابة فليتفضل.
في جميع المشاهد المصورة المنتشرة على المواقع الإخبارية، حاولتُ بعد مشاهدتها مرارا وتكرارا أن أقنع نفسي أن هؤلاء الجنود كانوا بالفعل مرتعبين، وأنهم دافعوا عن أنفسهم ..لم أصدق أن طفلا يحمل بيده «سكينة فواكه» يشكل خطرا حقيقيا على «دولة إسرائيل»، وأن هؤلاء الجنود كانوا بالفعل مرتبكين لدرجة أنهم اضطروا لإطلاق النار من المسافة صفر !! إسرائيل المتخمة بكل عناصر القوة: 200 رأس نووي، مع أقمار إصطناعية، وغواصات نووية، وسرب طائرات حربية هو الأقوى من نوعه، ودبابات «الميركافا»، ومجتمع بأكمله مدرب ومسلح ومجند في الجيش، ودعم أميركي لا محدود، كل هذه الترسانة ترتجف أمام طفل يهم بطعن جندي !!
في فيلم قصير نشرته القناة العاشرة، ظهر فيه عشرات المتدينين اليهود وهم يرقصون وهم يحملون صورة الطفل «علي دوابشة» الذي أحرق المستوطنون عائلته، كانوا يرقصون بحالة هستيرية وهم يحملون المسدسات ورشاشات «إم 16» وعلى وجوههم كل مظاهر الفرح، حتى أن صوت المراسل كان يشي ببعض الخجل والحزن. هذا الرقص المتوحش على صورة طفل محروق، هو نتيجة حتمية لعقدين وأكثر من الصعود الرهيب لليمين المتطرف في إسرائيل، وهو نتاج سياسة الإستيطان واعتلاء التلال التي بدأها شارون، وهو أكبر بكثير من أي هامش للتطرف قد ينشأ في أي مجتمع، أو ينمو بموازاة أي دين، ويتجاوز تقليعات النازيين الجدد في أوروبا، وحتى أنه يتفوق ببشاعته على تطرف داعش. هو في حقيقته عند الوصول إلى طبقات أعمق في عملية تحليل الصهيونية التاريخية وعنصرية إسرائيل عبارة عن الوجه الحقيقي للفاشية الصهيونية الموجهة ضد الفلسطينيين، بل وضد العالم بأسره، هو نوع من القتال الموجه ضد الإنسانية.
في كل الصراعات التي عرفها التاريخ، كان العداء بين الطرفين ضرورياً أحياناً، وكان ينمو على جانبيه طبقة من المحرضين والموتورين، لكن هؤلاء الراقصين على صورة الولد المحروق، ليسوا فقط حفنة من المستوطنين الحاقدين، وهؤلاء الجنود الذين يصيدون ضحاياهم من الفلسطينيين كنوع من التدريب على الرماية، ليسوا مجرد جنود مرتعبين، أو منفلتين؛ إنهم طبقة سياسية كاملة، أخذت منذ وقت ليس بالقليل تهيمن على إسرائيل، يرأسها نتنياهو، الذي يرفض أن يرى أي يهودي أكثر تطرفا منه، فيصطف إلى أقصى اليمين المتطرف؛ بل ويزاود عليهم بتطرف أشد ! والسؤال المطروح: كيف يمكن بناء سلام مع هؤلاء ؟!