خبر : تحليل مسرحية "المصور" للدكتور عاطف ابو سيف ( أ.د. محمد البوجي)

الأحد 24 يناير 2016 08:56 ص / بتوقيت القدس +2GMT
تحليل مسرحية "المصور" للدكتور عاطف ابو سيف ( أ.د. محمد البوجي)



غزة - كتب أ.د. محمد البوجي ، رئيس جمعية النقاد الفلسطينيين ، تحليلاً لمسرحية "المصور" التي ألفها الدكتور الشاب عاطف ابو سيف ، وأخرجها علي أبو ياسين ، وأديت على مسرح قاعة رشاد الشوا غرب مدينة غزة .
وجاء في تحليل الدكتور البوجي :
"يوم الأربعاء 19 يناير 2016 فقد خرجت من عزلتي بعد أن زارني شخصيا في مكتبي الأستاذ المخرج المسرحي حسين الأسمر واتصل بي هاتفيا الدكتور عاطف أبو سيف مؤلف النص المسرحي ,وكلمني على صفحتي الإلكترونية الممثل علي أبو ياسين . ذهبت مع الغروب وكانت القاعة نصفها ممتلئ ثم مرت لحظات وقد امتلأت القاعة عن آخرها إلى درجة أن الكثيرين لم يجدوا أماكن لهم فخرجوا ، هذا زادني حبورا بأن المجتمع يهتم بالمسرح وهذه ظاهرة ينبغي ان نتوقف عندها ، فلم أجد لا في القاهرة عاصمة الثقافة العربية الكبرى ، ولا في عمان ولا في أي عاصمة عربية تستطيع أن تجد هذا الحضور الهائل من الشباب والشيوخ والصبايا وقليل من الأولاد ، يعني هذا أمرين : أن المجتمع في حالة كبت وضغط فيجد فرصة للخروج والتنزه إلى مكان قد يجد فيه شيئا من الحرية. ثانيا : أن المجتمع الفلسطيني يحب الحياة ويحب الفن بكافة أشكاله ويحب أن يرى نفسه على خشبة المسرح . المسرحية ( صورة ) هي مونودراما أي قصة يؤديها ممثل واحد يقوم بالأدوار المنوطة به ويتقمص الشخصيات التي أبرزها النص. المحور الرئيسي هو بحث السيدة (سومة) عن صورة ابنها الشهيد عطا الله الذي أنجبته بعد سنين طويلة من الزواج وهو الابن الوحيد ،عند مصور المخيم , استشهد عطا الله على شاطئ بحر غزة حينما أطلقت البوارج العسكرية الإسرائيلية نيرانها عليه أثناء استحمامه في البحر. يحاول الممثل أن يتذكر وهو يبحث عن مسودة الصورة (النيجاتف) أحداثا كثيرة : الانتفاضة والقصف العشوائي على قطاع غزة والبوارج العسكرية التي تجوب البحر وتقتل من يقترب من الشاطئ كذلك تقصف الطائرات العسكرية المنازل . ثم يحاصر المصور في محله ولا يستطيع الخروج عدة أيام , ثم يأتيه ضابط المخابرات الإسرائيلية ويهدده بالسجن لأنه يصور الفدائيين ثم يأتي في المرة الثانية ويغلق له المحل ، لكن المصور يستمر في تصوير الفدائيين في بيته, ثم تعرج القصة على الانقسام وكيف أهان الناس وأذلهم وأضعف شخصيتنا أمام العالم , وكيف يتصارع الرفاق على كرسي الحكم وينسون المقاومة الحقيقية .
يدخل الممثل في عدة قضايا ساخنة لا يستطيع المشاهد أن يتمالك نفسه فيذرف الدمع الساخن مثل كرباج الانقسام . أخيرا يقف الممثل متمردا على كل شيء فيرمي الصور والمسودات والكراتين وهو يصرخ بأنه يبحث عن ذاته بصورة هستيرية . يغيب الممثل عن المسرح وكأن المسرحية قد انتهت ثم يعود ليعطي مجموعة من المواعظ إلى حكام غزة في طريقة حكمهم البلاد . انتهت الأحداث ومدة الأداء حوالي خمسين دقيقة . أقول إن المسرحية قد انتهت حقيقة أحداثا وأداء عندما حذف الممثل ممتلكاته في الهواء وهو في حالة توتر عصبي شديد وثورة انفعالية متمردا على ذاته . هنا انتهت المسرحية من ناحية المضمون والبناء الفني لها. وما بعد ذلك ما هو إلا تكرار وعظي وإرشاد للحاكم ، وهي في نظري كان لا لزوم لها , فقد قال النص كل شيء , كل ما يريده المخرج والمؤلف, وأن المشهد الأخير أعني آخر خمس دقائق كان فائضا زائدا عن الحاجة لا جديد فيه غير زيادة الحماسة والإحساس بالظلم والقهر الداخلي . الذي هو نتاج مجمل الأحداث فقد أحس المشاهد كل هذا أثناء عرض المسرحية فلا داعي للتكرار وزيادة في جلد الذات في النص . المسرحية رائعة , أشكر الممثل الرائع القدير علي ابو ياسين الذي أدى دوره أو مجموعة أدواره بإتقان لا مثيل له ، فقد استطاع أن يسيطر على أحاسيس المشاهدين ومشاعرهم واستطاع توصيل ما خفي فى النص من مشاعر الغضب والحنق والإحساس بالقهر . أعجب كيف استطاع أبو ياسين أن يحفظ النص كاملا دون أن يخطئ بحرف واحد , وهذه سمة الممثل المحترف في المونودراما , نص زاد على ثلاثين صفحة يحفظه الممثل عن ظهر قلب ويؤديه بطريقة بارعة واندماج في الشخصيات, بحيث أنه نسي نفسه وكان المفروض أن ينسى جزءا من النص أثناء هذا الاندماج , لكنه حافظ على تماسكه وأدى ما عليه وزيادة , مستخدما لغة الجسد بكل تفاصيلها وكانت حركاته محسوبة عليه كانت ملائمة تماما للمعنى المراد توصيله ولم أشاهد حركة جسدية فائضة أو زائدة على الدلالة المطلوبة . كان المخرج الدكتور حسين الأسمر رائعا في تشكيل حركات الممثل بدقة متناهية الخطوة كانت محسوبة وحركة اليد كذلك. استطاع المخرج أن يكون بمستوى النص الذي أبدعه الكاتب الروائي الدكتور عاطف أبو سيف بطريقة درامية حداثية . كان للديكور أثرا واضحا في إرسال الرسائل والدلالات رغم بساطته فهو لم يكلف الكثير لكنه يعبر تعبيرا كاملا عن مكان الحدث ومواصفاته. أيضا كانت الموسيقى بالمستوى المطلوب سواء التصويرية المنسجمة مع انفعالات المؤلف وحركاته , أو موسيقى الحروب والآلات العسكرية التي سيطرت على جزء كبير من موسيقى المسرحية . لكن يبقى لنا تساؤل ينبغي طرحه ،لماذا هذا الضغط الهائل على أعصاب المشاهدين؟ مجموعة متلاحقة من المشاهد المأساوية كلها تجلد ذاتنا وكأننا نملك أعصابا فولاذية ,كنت أتوقع أن يتخلل هذه المشاهد المأساوية بعضا من المشاهد الكوميدية أو اللفتات الكوميدية التي تهدئ من روع المشاهدين وأعصابهم, وبالتأكيد كان من الممكن أن تمنح المسرحية عمقا أكثر وضفافا أوسع في الدلالة على أننا شعب يحب الحياة ويتحدى المأساة بالنكتة والمواقف المضحكة , لكن المؤلف لم يخطر بباله ذلك ولا المخرج , رغم أنني أعتقد أن علي أبو ياسين شارك في ترميم بعض المشاهد في النص من خلال حياته في مخيم الشاطئ ولم تكن في النص الأصلي عند المؤلف. هذا رائع لأن العمل المسرحي عمل جماعي بالدرجة الأولى ويحق للمخرج والممثل أن يدلي برأيه في إكمال النص إذا اقتنع به الجميع . انتهت المسرحية وصعدت الجماهير الحاشدة على خشبة المسرح تعانق الممثل المحترف الرائع علي أبو ياسين الذي ألهب مشاعر الناس وجعلهم يقفزون إليه ويعانقونه ويلتقطون الصور التذكارية معه ومع المحرج ومع المؤلف وكأنهم يعانقون الحرية والانعتاق.