خبر : الانتفاضة الثالثة: آتية من قريب وذاهبة الى القريب ...حسين حجازي

السبت 10 أكتوبر 2015 12:13 م / بتوقيت القدس +2GMT



"آتية من بعيد وذاهبة إلى بعيد" استعيد اليوم كلمات رئيس وزراء فرنسي قبل ثلاثة عقود في وصف الانتفاضة الأولى العام 1987، التي بدأت كما لو أنها مباغتة للشرق المترهل والساكن كما للغرب. ولكني اليوم لا أجد سوى قلب الكلمات نفسها الى عكسها، لأصف هذه الانتفاضة الثالثة في محاولة صوغ او استقراء نبوءتها. هذه انتفاضة آتية من قريب وذاهبة الى القريب، ووحدها تلك الانتفاضة الوسطى الثانية هي التي كانت بمثابة الأضحية او تقديم القرابين. والتي لم تأخذنا الى أي نقطة في المكان او الزمان، وانتهت هذه المراوحة القاتلة بالانقسام كما قتل الزعيم.
لقد انتهت الانتفاضة الأولى بولادة السلطة الفلسطينية العام 1994، أي بوضع القدم في المكان اي الجغرافيا، ومن يتقدم في المكان قال الرفيق جوزيف ستالين يتقدم في الزمان، وتقدمنا خطوة واحدة ولكن كبيرة وذات اثر ملموس في التأسيس لنواة الدولة الفلسطينية، بعدما كنا مهددين بالتحول الى جثة هامدة في المنفى. 
أما الانتفاضة الثانية فقد كانت هي الحرب بامتياز حينما استعصى تحقيق هذا التقدم، حرب كانت أسطورة مخيم جنين هي بطاقة التاريخ التي تمنح الأحداث دالّتها، وان هذه الدالّة من الأمس القريب انما هي التي تضفي على هذه الانتفاضة الراهنة محتواها الزماني القريب، باعتبارها آتية من هناك من رحم هذه الانتفاضة الثانية المجهضة او المغدورة، دون ان تبلغ النقطة سواء في المكان او الزمان. ولما كانت هذه هي نهايتها فان النتيجة الوحيدة لها كانت هي الدمار الشامل او الكارثة، لقد تم فصل غزة عن الضفة لخلق البيئة السياسية للانقسام، وفي الوقت نفسه حدث التمدد المضاد للاستيطان في المكان.
هذه انتفاضة الضفة الغربية والقدس أيها السادة المختلفون على تسميتها، وهي ثأر الضفة والقدس بامتياز على المآل الذي انتهت اليه الأحداث الدامية في غضون الانتفاضة الثانية، التي انطلقت شرارتها من المسجد الأقصى أيضا والقدس. حملت اسمها من قدسية المكان هذه انتفاضة الأقصى "2" لرد الاعتبار ومحو آثار الإهانة التي لحقت بكرامة الضفيين وبطولتهم، اذا كانت انتفاضة الأقصى الأولى والمجهضة هي بطولة الضفيين بامتياز الذين تحملوا الثقل الرئيسي في عنفوانها وإذكاء نارها، كما كانوا وقودها من الشهداء على حد سواء والأسرى.
هذه انتفاضة عنيفة مزلزلة كاسحة وصادمة كأنها تفجر بركاناً كان للتو خامداً، ولكنه في لحظة أبان عن حمأة غضبه تماماً كما كانت الانتفاضة الأولى العام 1987، كهبوب عاصفة في سماء صافية. ولكنها لم تأت من مكان بعيد وإنما من المتغير الجديد الذي حدث وهو التقدم في الاستيطان، الذي بات يقترب اكثر واكثر ويغير في هذا القرب قواعد الاشتباك لا على المستوى الشعبي ولكن على المستوى الرسمي القيادي على حد سواء. وإذ وصل التهديد الى هذا الحد فان الذي ستجرفه معها هذه الانتفاضة أيها الإسرائيلي الغبي ليس غزة فقط، وإنما فلسطينيي العام 1948. يافا وحيفا وعكا واللد والرملة والجليل. 
وهذا هو القانون: اذا سمحت لنفسك ان تتمدد وتتوسع في المكان الى أبعد مما تستطيع ان يبلعه حلقك الصغير، فعليك ان تحذر من عسر الهضم وان تعرض قواك للضعف والانكشاف، فهذه هي إذن اللحظة المواتية لتصفية الحساب المؤجل بينك وبين كل الشعب الفلسطيني قاطبة وعن بكرة ابيه على ارض فلسطين، والمسألة اليوم إما ان يكتمل الاستقلال الفلسطيني او هو الدمار المتبادل هذه المرة، وقلت هنا من قبل أن الحسم ليس من جهة رأس الرمح الجنوبي ولا الشمالي وانما من الخاصرة الرخوة أي من الوسط، ويبدو ان هذا الحسم لن يحتاج إنجازه الى وقت طويل، أي لأن يتواصل هذا الاشتباك لسنوات وإنما الى وقت اقصر بكثير، اذا كان المتغير الرئيسي اليوم في المعادلة هو نضج الظروف الموضوعية والذاتية لإحداث التحول العظيم او الاختراق الكبير في المشهد العام. 
وهذا العامل كان مفقوداً بصورة جزئية وغير مكتملة زمن عرفات ورابين بعد سبع سنوات من الانتفاضة الأولى، وكان غائباً في عهد شارون وإيهود باراك العام 2000، وان الفضل في التحضير لهذا المتغير انما يعود لاستثمار ذكي وناجح للرئيس الفلسطيني أبو مازن في عملية دبلوماسية وسياسية وسيكلوجية متراكمة، أدت بالنهاية الى إعداد مسرح العمليات لتوجيه الضربة الأخيرة او الانقضاض الحاسم.
هذه انتفاضة من حيث التوقيت وسير العمليات القتالية تشبه الانقضاض الأخير، الحرب الخاطفة او العمليات الحاسمة، بعد انهاك العدو طويلا بالمناورات التي أفضت أخيرا على نحو عبقري وخلاق الى تفكيك تحالفاته الدولية، وشل قدرته على استخدام قوته المتوحشة بعد الانضمام الى ميثاق روما ومحكمة الجنايات الدولية، وبحيث شهدنا في الأيام الماضية الحذر الشديد في إطلاق النار على الجانب العلوي ضد المتظاهرين، والتركيز بدلا من ذلك على الجانب السفلي. واقتران ذلك بالتصريحات التي تشبه التوسل والرجاء من السلطة الفلسطينية، الدعوة الى التهدئة وكل ذلك بديلا عن التصريحات العنترية والمتغطرسة القديمة.
هذه انتفاضة تبدأ من اكتمال واختمار جميع العناصر السياسية اللازمة والتي تمهد لحدوث التحول الكبير، أي الى اكتمال شروط ونضج الانتصار. اذا كنا نبدأ هذه المرة من تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية سياسيا، ولم يبق الا الاتفاق على شروط تنظيم الانسحاب او الجلاء، وانه فقط وفقط في هذا السياق التاريخي والموضوعي يمكن فهم وتوضيح الوصف والدور، الذي تؤديه هذه الانتفاضة في اندفاعتها غير المسبوقة في شدة كمون طاقتها، التي تشبه غزارة اندفاع وارتطام الأمواه الغزيرة من مكان علوي ومرتفع في اتجاهها نحو أعماق سحيقة، وذلكم هو هجوم النصر في العمل الحربي.
لقد انتهى الأمر وكان هذا الفصل الأخير من القصة قد تحدد بالمبارزة بين أقصى الاعتدال الفلسطيني مقابل أقصى التطرف الأيديولوجي الديني اليميني الصهيوني، وهي المبارزة التي تتكشف عن مفارقة أخرى في الميدان : اقدم واعرق الأسلحة والتكنولوجيا البشرية التي عرفها الإنسان أي الحجارة والسكين في مواجهة أقصى تطور في تكنولوجيا الأسلحة وأدوات الحرب وصل إليها تقدم الجيوش الحديثة. العودة الى شراء المسدسات إذن يا إخوان، ولم تعد تُجدِ كل ترسانة الأسلحة من المدافع والطائرات. 
هذه هي نقطة التحول وحتى الآن يحاول نتنياهو شراء هذه الانتفاضة بإظهاره بعض الاعتدال والانحناءات التكتيكية، لكن السؤال اليوم هو : أين ديغول؟ أين الرجل او الزعيم السياسي الذي يمتلك الرؤية في إسرائيل؟