خبر : فصل الخطاب ...حسين حجازي

السبت 03 أكتوبر 2015 09:14 ص / بتوقيت القدس +2GMT
فصل الخطاب ...حسين حجازي




" لبيك" عريضة وبملء الصوت والفيه، هكذا وبكلمة واضحة، كان يفترض أن يكون الجواب الفصائلي الجماعي في غزة رداً على خطاب الرئيس بل الزعيم والقائد محمود عباس الثمانيني الجميل، الذي ظهر مساء يوم الخميس الثلاثين من أيلول وبحق ليس زعيماً وقائدا جديراً بعظمة وبطولة وكرامة المأساة الفلسطينية، ولكن بوصفه زعيم العرب الوحيد أمام حضرة كل ممثلي أمم الأرض، الزعيم الذي يملك جرأة القول بأننا نعلن ما نقرره نحن الشعب الفلسطيني، الذي تبدأ أحداث الشرق من قضيتنا وتنتهي من عندنا. 

هذا خطاب لا يقوله الا زعيم كبير يعيد الى الذاكرة خطابات مفصلية رددت في نفس هذه القاعة في لحظات تاريخية، وأزمان عابرة ألقاها زعماء كبار ولكن خالدون. وان من المفارقة هنا في هذا الخطاب انه جاء ليذكر بهذه الحقيقة التي تتمثل بغياب هذا الطراز من زعامات العالم التاريخيين، اذا كان خطاب باراك أوباما جاء باهتاً وان كان الرئيس الفلسطيني هو الذي استحق ان تقف له كل القاعة بالتصفيق.


فماذا تراه ما كان الخطاب دون المستوى، والواقع ان جوابكم الركيك أيها الأخوة والسادة المناضلون، هو الذي جاء دون المستوى حتى دون مستوى وعي وإدراك رجل الشارع البسيط الذي رأى في الخطاب انتصاراً للكرامة.


انظروا الى وجه الرئيس لتروا انعكاس صورة شعبه على ملامحه، ولكني أضيف استمعوا الى نبرة صوت هذا الرئيس والزعيم لتستدلوا على مدى صلابة وكبرياء وعنفوان وعناد هذا الشعب. هكذا كان الصوت الرسالة الأولى الى الفلسطينيين كما العالم والإسرائيليين. وهل تراه الصوت الا يصدر عن الروح وهي نفحة الله في طينه؟ وحيث الآلهة تسكن القلوب وهذه القلوب لا تبلغ التماهي مع الشمس رمز البطولة الا حينما تفيض بعاطفة عظيمة. وهل كان السعي بين الصفا والمروة الا هذا التوتر في قصة البشرية بين العاطفة أي القلب والعقل، في اختزاله الرمزي في طقوس الحج؟؟


وأسفاه، بدوا كما لو ان على رؤوسهم الطير. هيا اذن نبحث عما في هذا الخطاب من نواقص، لقد فاجأنا الرجل بحق السماء فما العمل؟ ولما أدمنا التشكيك به وقلنا مرارا انه يخاف من الإسرائيلي، فما الذي نقوله الآن بحق السماء؟ لنقل ان خطابه "عاطفي وإنشائي" وأن محك الاختبار والصدق مرهون بتحويل الأقوال الى أفعال. وقال آخر من فصيل آخر "انه دون المستوى المطلوب بكثير" مطمئنا إلى ان أحدا لن يسأله عن معيار هذا المستوى او بم يتحدد هذا المستوى المطلوب. وقال الثالث انه "لم يكن واضحاً وديماغوجي بل ومخيب للآمال وكان يجب عليه أن يعترف أمام الملأ، أمام العالم، بفشل كل مسار التسوية والمفاوضات" ولكنه لم يفعل وأبقى الباب موارباً أمام العودة الى المفاوضات، قال آخر.


لست أعرف إن كان الخطاب مخيباً للآمال حقاً ومن شعر حقاً بخيبة هذه الآمال؟ إذا كان من غير الممكن او المنطقي ان تكون هذه التعابير وخيبة الأمل نفسها هي في الوقت نفسه تمثل رد فعل بنيامين نتنياهو وجماعته على المقلب الآخر. "مراوغ مخادع كذاب ومحرض بل وفارغ ولم يفجر قنبلة او أي جديد".


إن المسألة مرة أخرى أننا مللنا ليس من هذا الاشتباك الكلامي، الذي كان يفترض ان الرجل وضع حدا له في خطابه التاريخي والجامع، ولكن في غياب هذه الاستقامة السياسية التي لا تبخس الآخرين حقهم. ولكم ان تسموها الموضوعية العقلانية التي تراعي وعي ونضج الجمهور، واحترام العقل الجماعي للفلسطينيين على حد سواء، وهي قيم تبرز الثقة بالنفس والقدرة على الإنصاف، وبالتالي إدارة الحوار. وهنا يجب أن نتعلم من الإسرائيلي ولا عيب في ذلك حينما تتحد المعارضة خلف الحكومة، عندما تأتي هذه المواقف في منعطفات حاسمة.
وعليه، فان المسألة هنا ليس فيما لم يقله الرئيس، ولكن فيما إذا كانت الحرب التي اعلنها وقد جرد السيف من غمده أو وضع المسدس على الطاولة، هي حرب وصدام حربي جمعي. إن مهمة القائد هي تحديد الاتجاه ووجهة السفر المقبلة، والرجل كان واضحاً، لقد اعلن امام الملأ وكل أمم الأرض، بأن مرحلة من الصراع انتهت وان مرحلة أخرى جديدة بدأت وهو العنوان. لكن هل انتبهنا هنا الى التحذير المبطن في نهاية الخطاب: "أن احذري يا إسرائيل ان تكون ذاكرتك قصيرة".


لقد قال الرجل بوضوح ان اللعبة انتهت ونحن نعود اليوم الى ما قبل أوسلو، إلى العام 1987، ولكن دون التراجع او التنازل عن الدولة التي باتت حقيقة وكانت مجرد نظرية العام 1988، هيا إذن الى الأمام سر، وانت الآن يا نتنياهو حر ان تقود سلطة احتلال أو هو الاستسلام او الانسحاب والتسليم.


لكن الامر لن يكون سهلا بهذه الطريقة التي نصوغها الآن، فالعلم قد رفع وفي البدء تكون الرمزية، ولكن ما بعد الرمزية هو فن النحت والتشكيل. هناك اليوم ضرورة للاعتراف بالحقائق، وعلى رأس هذه الحقائق ان شبكة معقدة من الروابط - بل لنقُل الحقيقة من المصالح - قد نشأت وتعمقت مع مرور الزمن بين مجموعات وفئات وأفراد مع إسرائيل، بحيث يصعب اليوم الوصول الى فك الارتباط مع إسرائيل.


لكن إن كان ثمة دلالة الآن في التوقيت بين العملية التي جرت في بيت فوريك شرق نابلس، وهذه الانعطافة السياسية التي بدأت او يؤشر إليها بخطاب، فإن السباق اليوم في تقرير مصير الفلسطينيين والإسرائيليين انما هو بين قوة واتساع تداخل هذا الاشتباك بين الطرفين بوسيلة العنف الدامي بل والحربي، وبين تفوق منظومة هذه المصالح المادية على الأرض، ترجمته وصياغته في الشروع بإعادة إنتاج تسوية حقيقية بين الطرفين.


والذي حدث بالأخير انه عند هذه اللحظة الحاسمة في التوقيت، قام الرجل بتوجيه ضربته اليائسة ولكن اللامعة بمقاييس الاستراتيجية بإلقاء الحجر التاريخي الذي أهمله البناؤون في البركة الآسنة. وفي التحليل الأخير علينا أن نتذكر ان هذا ما كان عليه الوضع العام 1987، إذ لم تحل أو تمنع منظومة المصالح الهائلة بين طبقة واسعة من العمال والتجار كانت تنعم بالرفاهية والازدهار في العلاقة مع إسرائيل، من انقلاب الوضع القائم رأساً على عقب. وربما هذا ما عناه أبو مازن بقوله حذار من الذاكرة القصيرة. بل وانصح الإسرائيليين ان يقرؤوا ما يحدث في القدس وما جرى في نابلس في هذا الإطار.