خبر : أبو حسن شمعة في ذكراه: أيقونة فلسطين وسراجها المنير.. د. أحمد يوسف

الجمعة 12 يونيو 2015 07:43 م / بتوقيت القدس +2GMT
أبو حسن شمعة في ذكراه:  أيقونة فلسطين وسراجها المنير.. د. أحمد يوسف



كثيرون هم الذين فرضوا حضورهم على المشهد الإسلامي والسياسي في قطاع غزة، ولكنّ القليل منهم هم الذين احتضنهم الناس وأحبوهم، وانشرحت لهم الصدور، ولم تبخل ألسنة العامة والخاصة بالدعاء لهم والثناء عليهم؛ لأن لهم سلوكاً رسالياً، وكانوا مدرسة في التربية والأخلاق والقيم الإنسانية.

كان أبو حسن شمعة (رحمه الله) واحداً من بين هذا القليل، الذي إذا نظرت إليه راح خيالك إلى ذلك الجيل من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لتجد نفسك وكأنك أمام واحدٍ من بين أولئك العظماء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه..  كان أبا الحسن سمحاً في كل معاملاته، وصاحب لمسة حانية مملوءة بمشاعر أبوية صادقة، مثل رفيق دربه الشيخ أحمد ياسين؛ إمام شهداء فلسطين، الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، عاشا معاً حيناً من الدهر كانا فيه الثنائي الذي يعاظم من كسب هذه الحركة، ويعزز من قيادتها للشارع، ليس في غزة وحدها بل في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر.

وفي توصيفه الرائع لهذه القامة الإخوانية، كتب د. يوسف رزقة، قائلاً: "كان شمعة - كما اسمه - يذوب من أجل فلسطين، لقد تحمل الشيخ أبو الحسن مسئوليات عديدة في حركة الإخوان، وفي حركة حماس ولا سيما بعد استشهاد القادة الأفذاذ, فسار على دربهم, وحفظ لهم سبقهم وجهادهم, وكان دائم الاستشهاد بأقوالهم وأفعالهم... لم يكن أبو الحسن رجل إعلام وكاميرا, بل كان رجلاً خفيفًا يميل إلى الصمت, وينفر من الضجيج, كان أليفًا محبًّا لإخوانه, وسطًا في الحكم والإصلاح, وكان خطيبًا وواعظًا، وكان سبّاقًا في نشر الدعوة والتبشير بالحركة يوم كان خطيبًا في مسجد (كاتب ولاية) في السبعينيات، وكان الشباب يؤمون مسجده لسماع خطبته، والإفادة من مواعظه الفكرية، التي كانت تميل إلى التأصيل, وتنهل من فقه البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي وسيد سابق".

قد تعجز الكلمات في هذه الذكرى أن تسطر تاريخ مجد تليد أسهم في صناعته شيخنا الحبيب، وفقيدنا الغالي محمد حسن شمعة (رحمه الله)، ولكنها نبضات من القلب، وخلاصة عفو الخاطر لرجل جمعتني به صحبة طويلة، ومواقف ما زالت حيّة في ذاكرتي، وكأن وقائعها هي حدث اليوم وواقعه.

إن هناك في قطاع غزة عدداً من الرجال هم بمثابة أركان هذه الحركة المباركة وعماد استقرارها، وبهم يتنامى كسبها على مستوى الساحات والجماهير، والشيخ أبو حسن شمعة هو واحد من بين هذه القلة، التي تحظى بلقب الأب القائد، الذي يمنحك بسعة صدره الجُرأة والاطمئنان لتشكوا إليه ما ألمّ بك من هموم أو ما لحق بالصف من تراجع وفتور.

كثيرةٌ هي المرات التي ذهبت إليه، ناشداً أن أسمع منه الرأي واستوضح الموقف، وأضع على مسامعه ضغوطات واقع العمل في الحركة والحكومة، حيث إن الأمور فيما بعد الأحداث الدامية في يونيه 2007م لم تكن تبعث على الاطمئنان، وهي تسير في طريقٍ حال سالكيه في ساحتنا الفلسطينية كمن يمشي مكباً على وجهه ... وبنبرته التي ما عرفت عنها إلا الصدق، وأمانة النُصح، كان يخفف من أحزاني، ويردني إلى ما يبعث الأمل من جديد، كان الرجل كما قال عنه الأخ إسماعيل هنية؛ رئيس الحركة: "أيقونة الإخوان".

كان أبو الحسن (رحمه الله) إخوانياً أصيلاً، من ذلك الطراز الذي عزَّ مثيله في هذه الأيام، التي انفتحت فيها الدنيا على كثير من الشباب الإسلامي، فتكاثر اللاهثون خلفها وعزّت القدوات، فلا تجد قلوباً حانية على ذلك المستوى الرسالي لأولئك القادة الشهداء، تحمل الهمَّ وتعين على نوائب الحق، وتعيش أوجاع الناس ومآسيها، بل حناجر تردح بلعاعات تمنحها هيبة كاذبة أو مكانة لا تستحق.

رحمك الله يا أبا الحسن، رحلة طويلة من العمر جمعتنا فيها ذكريات لا تموت؛ لأن فيها الكثير من الشواهد والمواعظ والأثر.

في مطلع الثمانينيات، شددنا الرحال - معاً - إلى الإمارات العربية المتحدة لنعمل في الدورة الصيفية لتحفيظ القرآن الكريم، والتي كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) يرعاها بأفضل الاعتمادات المالية والميزانيات، للنهوض بأطفال الإمارات وشبابها.

سافرنا للإمارات أنا والشيخ (أبو الحسن) وعدد من الأخوة الأفاضل من قطاع غزة، وجمعتنا شقة واحدة مع مجموعة من الإخوان جاءوا من العراق وسوريا ومصر، لنعيش داخل هذه الشقة أجمل وأحلى وأكرم وأطيب ثلاث شهور، نتذاكر ونتفاكر أمر دعوتنا وديننا وحركتنا، وكان شهر رمضان واحداً من بين تلك الشهور الثلاث، حيث وضعنا برنامجاً تقاسمنا فيه العمل، كلٌّ بحسب مهاراته، فكان نصيبي - لخبرتي في طهي الطعام - القيام بإعداد وجبة الإفطار مرتين في الأسبوع، وكان شريكي في هذه المهمة الأخ (أبو الحسن)، حيث كانت له لمسات ونكهة مميزة في شأن بعض الأطباق الفلسطينية الشهيرة كالمقلوبة والفتّة، أما أنا فكنت أشاركه في التحضير والإعداد، إضافة لتجهيز الشراب الذي كان (ماركة مسجلة) بامتياز لي... لقد اخترعت شراباً لا يُكلف كثيراً، حيث كنّا نجمع التمر من أشجار النخيل المتناثرة بكثرة على جانبي الطريق في مدينة أبو ظبي، ثم نضعه في الخلاط مع اللبن أو الحليب ليخرج منه أشهى شراب نكسر به صيامنا.

لقد كان فقيدنا خفيف الظل، ولديه روح الدعابة والأدب (a Sense of Hummer)، والتي تجعل من يجالسه يعي بأنه أمام رجل صاحب بصر وبصيرة، بشوش يحب الناس؛ يألفهم ويألفونه.

لقد عشق إخواننا العراقيون المقلوبة الفلسطينية، وأتحفونا ببعض أطباقهم المميزة كذلك، وظلت ذكريات تلك الأيام باقية بيننا.

بعد انتهاء الدورة، عرض علينا الأخوة في الإمارات البقاء والعمل في العديد من الوظائف المتاحة في بعض الوزارات؛ كالتعليم والعمل والأوقاف، والتي تتناسب مع مؤهلاتنا العلمية والأدبية، اخترت أنا وبعض من جاء معنا من غزة الاستمرار هناك، أما الأخ (أبو الحسن) فقرر العودة إلى غزة، ليبقى إلى جانب الشيخ أحمد ياسين يرعى معه هذه الدعوة، ويعاظم من كسبها.

لم تنقطع زياراتي للأخ (أبو الحسن) في أي مرة غبت فيها عن الوطن ثم عدت إليه، كان دائماً محطتي الأولى، وفاءً لما بيننا من صداقة تاريخية، ولمعرفة واقع الحركة وأحوال الوطن مع الاحتلال.

دار الأرقم: الصرح الأشم

لا شك أن الأستاذ (أبو الحسن) قد أعطى لمدارس دار الأرقم جلّ وقته، وأخذت منه الكثير من تفكيره وانشغالاته، فهي مشروع تعليمي رائد يستحق أن يمنحه المرء عمره، وأن يعطي له زهرة شبابه وشيبته، وهو التزام كبير كان على كاهله؛ فدار الأرقم  وديعة الشيخ الشهيد أحمد ياسين ومشروعه لإعداد جيل رباني فريد.. لقد أدركت منذ اللحظة التي وطئت فيها قدماي أرض المدرسة، وشاهدت التميز والنظام الذي تحظى به، كم هو حجم العبء والمسئولية الملقاة على عاتقه، لذلك حثثت كل من أعرف من أهل الخير ومؤسساتهم الإغاثية أن يقدموا الدعم له، لإعادة ما تهدم من بنيانه، جرَّاء الغارات الإسرائيلية على المدرسة قبل العدوان الموسع في ديسمبر 2008م وبعده، مثل: مؤسسة الإغاثة التركية (IHH) ومؤسسة قطر الخيرية، وأيضاً مؤسسة نخلستان وأصدقاء الاقصى من جنوب أفريقيا.

وتشهد له مخيمات "تاج الوقار" تخرج الآلاف من حفظة القرآن الكريم من تلاميذ دار الأرقم. لقد كان باب الشيخ يطرقه الفقراء وأصحاب الحاجات، وكان كالشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) لا يرد أحداً، ولكن إذا لم تتوفر المساعدة حينها وعده خيراً وأجاب.

لقد استعان الأخ محمد حسن شمعة بجيل الرواد من إخوانه، ليحملوا معه أثقال وتبعات هذا المشروع العظيم.. وأتذكر يوم جاء بالمهندس ماجد سالم جابر - العائد من الإمارات - ليكون مديراً للمدرسة، فقلت له: لقد أحسنت الاختيار يا أبا الحسن، إذ استأجرت القوي الأمين.

لقد رعى شيخنا الأمانة، وحافظ على التزامه التطوعي بالنهوض بالمدرسة، وتكفل بتوفير الميزانية المطلوبة لاستمرارها كمشروع إسلامي أشاد به الجميع، حتى التلفزة الغربية قامت بإعداد تقارير تشهد بتميز المدارس التي ترعاها الحركة الإسلامية، وعلى وجه الخصوص مدارس دار الأرقم. وبالرغم من ضعف حالته الصحية، التي توجب عليه المكوث في بيته، إلا أنه ظل على التزامه بالسهر على متابعة يوميات المدرسة وشئونها حتى الرمق الأخير من عمره.. وفي يوم الثلاثاء الموافق 5 يونيه 2011، وبينما كان يتحدث لإدارة المدرسة وأساتذتها - في جلسة كانت أشبه بجلسة وداع لتسليم الأمانة لهم - سقط مغشياً عليه، وتمَّ نقله إلى مستشفى الشفاء بغزة، حيث أدركته المنية صباح يوم الجمعة؛ أي  بعد ثلاثة أيام من فقدانه لوعيه، وتمت الصلاة عليه في المسجد العمري الكبير، حيث أبَّنه الكثير من إخوانه ورفقاء دربه، واخضلت لحى الكثيرين من دموع سكبتها عيون كل من عرفوه وعايشوه.

لقد روت لي زوجتي التي كانت إحدى طالباته في مدرسة المأمونية الإعدادية في أوائل السبعينيات، أنه كان دائماً يحرص على حثِّ الطالبات على الصلاة ولبس الحجاب، وكان جاداً في عمله، ويتعامل مع الطلاب ليس كأستاذ ولكن كأبٍ يحنوا على الجميع.

سنشد عضضك بأخيك

كان أبو الحسن لي كالأب الحاني، وكنت استقوي به في الكثير من المواقف والمناسبات، لإحساسي بأن الرجل من خلال موقعه في رأس هرم الحركة؛ كرئيس لمجلس الشورى العام، ومرجعيته التاريخية والأدبية، له كلمته التي لا تُرد.

في مسيرتنا الحركية لأكثر من أربعة عقود، عرفني وعرفته، وكنت أجد فيه – دائماً - ملاذاً آمناً إذا ما ضاقت على كلماتنا واجتهاداتنا السياسية مسامعُ الآخرين في الحركة والحكومة.. لقد تعودت أن أزوره من حينٍ لآخر، كي أبث إليه شكواي، وكنت أصطحب معي أحياناً من يشد من أزر موقفي ويسند قولي؛ النائب سيد أبو مسامح أو الدكتور غازي حمد، حيث كنّا نتجاذب معه أطراف الحديث في شؤوننا الداخلية، ونحيطه بما كنا نراه يستحق أو يوجب على قيادة الحركة التحرك والاستدراك.. كان الرجل (رحمه الله) يسمع لنا، ويطرح من الرأي ما يُفرّج كربتنا، ويجعلنا نستعيد ثقتنا بأن هناك من يفهمنا ويتفهم الأمور، ويشاطرنا قلقنا الذي نشعر به، ويمنحنا من رشد القول ما تطمئن به قلوبنا.

لقد زرته بعد الأحداث الدامية في يونيو 2007م للسؤال عن أحوالنا، وإلى أين تسير الأمور، وما هي مآلاتها؟ وهل هناك من سبيل للخروج من حالة الانقسام وتجاوز وطأته السياسية وتداعياته المجتمعية؟ فكان جوابه: إن ما وقع  - يا أخ أحمد - هو معركة فرضها الآخرون علينا، وشيءٌ اضطررنا إليه، لكن المصالحة هي قدرنا، وسنعمل على تحقيقها.. هذا قرارنا الذي أجمعنا عليه في الحركة، والمسألة فقط تحتاج إلى بعض الوقت.

لقد علمت من أكثر من أخ بأن قرار المصالحة الوطنية ما كان ليُتخذ بالسرعة الذي تحدثت بها حماس لولا تحرك الأخ (أبو الحسن) وإصراره على ذلك.

لقد كان الرجل صاحب كلمة هادئة وذو خبرة تاريخية، وله احترام كبير بين الإخوان، سواء من كانوا في العسكر أو في الحكومة.

خلال فترة العدوان على قطاع غزة 2008/2009م، جاءت الكثير من الوفود العربية والإسلامية التي تحمل مساعدات إغاثية للقطاع، فجئت بالعديد منها إليه، حيث وجدت فيه الشخص الذي ترتاح وفود القادمين للحديث معه، وكنّا نجد فيما أودعنا بين يديه الحافظ الأمين.

كنت أزوره في البيت وقت المساء، وكنت أجده - أحياناً - صائماً فأفطر معه وأصلي خلفه، ثم نجلس للحديث، حيث أفضفض له بكل ما نفسي أو يجول بخاطري من قلق وهموم، وبصراحة لا أستطيعها أو أجرؤ عليها مع أحدٍ غيره.. وبعد ساعة ونصف الساعة من الحديث والنقاش الذي يطول بيننا، أصلي معه العشاء وأغادر مجلسه، ولكن بشعور أنيِّ قد بلّغت الأمانة، ونصحت لوليّ الأمر، ورفعت عن كاهلي عبء كتمان الشهادة.

في أكثر من مناسبة، دعوته إلى بيتي مع بعض الأصدقاء القدامى، فكان يأتي ويحضر معه صينية كنافة نابلسية قد أعدها بنفسه. يأخذنا حديث الذكريات معه، ثم نتناول الغداء والحلوى، ويغادرنا تودعه قلوبنا محبة واحتراماً. كان الأخ أبو حسن شمعة (رحمه الله) واحداً من الرعيل الأول الذي عرفناه وبايعناه، وتعاقدنا على الوفاء معه للنهوض بدعوتنا، وحماية مشروعنا الإسلامي، كان بالنسبة لي مقنعاً ومُلهماً، وتعكس أخلاقياته وتعاملاته سلوكيات صحابي جليل.

أحداث يونيه الدامية: شهادة للتاريخ

قبل وفاته بأسبوعين، زرته في بيته مع الأخ النائب سيد أبو مسامح، وسألته عن روايته للأحداث الدامية التي وقعت في يونيه 2007م، وقلت له: يا أخي يا أبا الحسن.. أنا رجل صاحب قلم، وسأكتب يوماً ما شهادتي للتاريخ، لأنني كنت مشاركاً ومتابعاً للكثير من اللقاءات والجلسات التي تعقدها جهات الوساطة واللجان الأمنية لفضِّ النزاعات، التي لم تتوقف بين فتح وحماس.. أريد أن أسمع روايتك، باعتبار مكانتك في قيادة الحركة، واضطلاعك على كل التفاصيل.

سرد الرجل (رحمه الله) لنا روايته، والتي أكدت لي ما كنت أقوله وأدافع فيه عن حركة حماس، وهو أن الأمور لم يكن مخططاً لها بالشكل الذي تدحرجت إليه. لقد استدعت فاجعة حماس باغتيال الشيخ محمد الرفاتي (رحمه الله) إمام مسجد العباس بتاريخ 10 يونيه 2007م، على أيدي بعض العناصر الأمنية من حركة فتح، أن يكون هناك ردٌّ يردع القتلة وجهات التحريض على مثل هذه الأفعال الشنيعة، فكان ما كان، ووقع  بعد أربعة أيام؛ أي في 14 يونيه، ما لم يكن في الحسبان.

الانتخابات الداخلية لحماس: علامة استفهام

ذات يوم من عام 2008م، وبعد أقل من أسبوعين فقط من اجراء الانتخابات الداخلية للحركة، زارنا وفدٌ أوروبيٌ رفيع المستوى في غزة، التقيته في فندق القدس الدولي.. وسألني: أصحيحٌ أن التيار المتشدد في حماس قد فاز بقيادة المكتب السياسي للحركة.؟ قلت له: لا علم لي – حتى اللحظة – بتفاصيل نتائج الانتخابات. فأخذ يُعدد لي أسماء الذين فازوا فيها.!! وذكروا لي كذلك بأن "التيار المعتدل" الذي أمثله أنا والأخ غازي حمد قد خسر وتراجعت مكانته.!! بصراحة، لم يكن لي علم بكل هذه التفاصيل. فسألته باستغراب: من أين حصلتم على هذه المعلومات البالغة السرية.؟ فقال: من الإسرائيليين.!!

ذهبت يومها إلى أخي (أبو الحسن) في مكتبه بمدرسة دار الأرقم بحي الدرج، ورويت له ما سمعت، وقلت: أخي أبو حسن، إذا كانت كلُّ هذه الأسرار بين أيدى الإسرائيليين وأجهزتهم الأمنية، فلماذا كلُّ هذا التكتم علينا.؟ ولماذا لا نجري انتخاباتنا على المكشوف، ونتنافس أمام الملأ.؟! وذكرت له كيف كنا نجري انتخاباتنا الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية قبل خمسة عشر عاماً، حيث كان التنافس والتصويت هو على البرامج والرؤى والمواقف، وليس على الأشخاص من حيث أقدميتهم أو مكانتهم.. لقد كنّا نقول: إن فلان يصلح، وفلان لا يصلح؛ بناءً على ما نعرفه من شخصيته وممارساته ومؤهلاته العلمية والميدانية، ثم نجري التصويت بالاقتراع السري.

وأضفت قائلاً: يا أخي يا أبا الحسن.. لقد تغير الزمن الذي كنا فيه تحت المراقبة والمطاردة، لقد أصبحنا نحن اليوم الحكومة، ونحن الأجهزة الأمنية، وليس هناك ما نخشاه.. فعالم الاتصالات قد كشف المستور وفضح الأسرار، وأنه أعزُّ لنا وأكرم أن يكون هناك مؤتمرٌ تنظيمي عام، يطرح فيه الأخوة والأخوات آراءهم وأفكارهم ومشاريعهم السياسية والدعوية والتربوية ثم يجري التنافس الشريف على من سيحمل برؤيته عبء المرحلة القادمة، ثم تكون المحاسبة والمراجعة بعد انقضاء المدة، بناءً على نجاحه أو إخفاقه في ذلك.. ردَّ عليَّ الأخ أبو الحسن قائلاً: يا أخ أحمد.. إن ظروفنا تختلف عن الآخرين، والعدو ما زال يتربص بنا، ويستهدف أهل الشأن منا، لذلك فنحن - بطريقتنا هذه - لا نقطع له الشك باليقين.

تفهمت بعضاً مما قاله، ولكن ظلت قناعتي بأن من الأفضل لنا وقد أصبحنا شهوداً - بأسمائنا ومواقعنا - ولا يتحرج الكثير منا اليوم أن يكشف عن صفته التنظيمية للناس، ويجاهر بها حتى عبر الفضائيات، أن نتنافس بالطريقة العلنية، والتي لا تفتح الباب لمظَّان السوء، وتهدم ثقة الصف بالقيادة.

اليوم، ليس هناك مكاناً للأسرار، بل إننا أخذنا - إمعاناً في التحدي - نصنع كلَّ يوم شكلاً من أشكال "الجكر" لمناكفة عدونا، ومناجزته على مستوى الرؤية والمعنويات.

بيت الحكمة: التهنئة والمباركة

منذ اليوم الأول لتأسيس مؤسسة بيت الحكمة في نهاية عام 2008م، أعانني الأستاذ أبو الحسن بدعمه وتأييده، ومنحني النصح والمباركة، حيث كنت قد اطلعته على فكرة المشروع وتطلعاتنا من وراء ذلك، وشرحت له الغاية والهدف، فكان أول من تفقد المكان وأول المهنئين.. وعندما كانت تأتينا الوفود من الدول الغربية، وتطلب اللقاء بقيادات من حركة حماس، كنت أرتب له في بيت الحكمة جلسات التعارف والحوار معهم.

لقد كان أخي أبو حسن شمعة رسالياً في حواراته، ومقنعاً في عرض أفكاره ونقاشاته، ولم أجد أي مشقة أو جنوح فيما يطرحه على هؤلاء القادمين من أمريكا وأوروبا، وقد شاركنا العديد من الجلسات الموسعة مع تلك الوفود القادمة من الغرب، وقد تشرفت بالترجمة له في بعض لقاءاته الخاصة مع برلمانيين وسياسيين أوروبيين وأمريكيين.

لقد شاركنا في حفلة تخريج لعددٍ من طلاب الدورة الدبلوماسية في فندق الكومودور، وقد انتظرناه أن يشاركنا حفلة تخريج دفعة أخرى ببيت الحكمة، ولكن المنّية أدركته قبل يوم واحد من موعدنا معه.. وشاء القدر أن نزوره  في المستشفى وهو مسجى على سريره، وكان كمن يغط في نومٍ عميق، وكان وجهه يشع نوراً، وحوله يقف رهط من إخوانه ومحبيه وفي عيونهم دمعة صامتة وعلى ألسنتهم دعاء: "طبت حيّاً، وطبت ميتاً يا أبا الحسن". وفي "مقبرة الشيخ رضوان"، تمَّ دفنه إلى جانب إخوانه ورفقاء دربه الشهداء: الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور إبراهيم المقادمة، والأستاذ صلاح شحادة وآخرين.

حقيقة، لكل إنسان من اسمه نصيب يا أبا الحسن، فقد كنت شمعة فؤاد هذا الوطن.. واليوم، نحن نحنُّ إليك، والقلب في وجيبه يهتف: "وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر".

لم يكن الأخ محمد حسن شمعة يتحدث - عادة - لوسائل الإعلام خارج عمله كرئيس لمجلس أمناء مدرسة دار الرقم، أو كرئيس لمجلس أمناء الجامعة الإسلامية، وظل موقعه التنظيمي كرئيس لمجلس الشورى العام في غزة سرّاً حتى وفاته (رحمه الله) في الثامن من  يونيه 2011م.

لقد فاجأني موته، وغاب عنّا في وقت كنَّا نحن في أشد الحاجة إلى حكمته السياسية وقيادته الأبوية الحانية لنا.

الحزب السياسي: مجرد فكرة للنقاش

في إحدى زياراتي له في دار الأرقم، قال لي: إن هناك من يتحدث عن رغبتك في انشاء حزب سياسي، قلت له: يا أخي يا أبا الحسن.. أنا لست في وضع يسمح لي القيام بذلك، فأولاً؛ ليس لديّ الرغبة في ذلك، وثانياً؛ لست في هذا العمر بوضع صحي يؤهلني لحمل هذا العبء، وكل ما أتطلع إليه هو أن أخدم دعوتي، وأن أُقدّم لأخواني الرأي والمشورة.. فالحزب السياسي هو مجرد فكرة أنادي بدراستها للخروج من نفق ما نحن فيه.. وقد يتفق معي البعض في ذلك وقد يختلف، المطلوب فقط هو مناقشة الفكرة والخروج برأي قاطع فيها، حيث إن كل الحركات الدينية في العالم العربي والإسلامي قد أنشأت لها أحزاباً سياسية؛ ليس فقط الإخوان المسلمين بل وحتى السلفيين ورجال الطرق الصوفية وأصحاب والزوايا.. فأنا - هنا - مجرد عارض أفكار وليس مصرّاً على أيٍّ منها.. وفكرة الحزب السياسي كنت قد طرحتها مكتوبة لبعض الأخوة عام 2006م، لمناقشتها في المكتب السياسي، إلا أن الأخ حامل المقترح آثر السلامة، وطوى الورقة ولم يبدها لهم.. إن فكرتي منطلقها هو ما اجتهده الأخوة في حزب العدالة والتنمية في كلٍّ من تركيا والمغرب، وهو أن عمل الحزب هو المجال السياسي، وأن الانتماء إليه هو انتماء سياسي على أساس المواطنة، وهو ما يجعله حزباً مفتوحاً لجميع المواطنين، ما داموا ملتزمين بتوجهاته وبرامجه السياسية وقوانينه، وأن اجتهاداته واختياراته تبقى اجتهادات بشرية نسبية قابلة للصواب والخطأ، وحكم الشعب والتاريخ هو الفيصل في بيان مدى جدارتها وجدواها.

يا أخي يا أبا الحسن.. هل تنتظر منّي بعد كل هذه السنوات الطويلة التي قضيتها في أمريكا، وتنقلت فيها زائراً لبلدان أوروبية وعربية وإسلامية عدة، وحزت على درجات علمية عالية في الهندسة والسياسة والإعلام، وكنت أعيش لعقد من الزمان في العاصمة واشنطن؛ حاضرة الغرب وصانعة السياسة فيه، وتنقلت في عدة بلدان عربية واسلامية وغربية شهدت ساحاتها صراعات وتوترات عالية كالجزائر وأفغانستان وايرلندا الشمالية، تعلمت منها الكثير من الدروس والعبر، تريدون مني أن أفكر بعقلية من فرض عليهم الاحتلال الإسرائيلي حصاراً منعهم – قهراً - حتى من أن يسيروا في الأرض فينظروا..!!

إنني أقدّر إخواني، وأحترم ما يقولون، وأتفهم - أحياناً - ما يفعلون.. ولكن من حقي أن أقول لبعضهم: إن رأي المرء على قدر تجربته، وأنه "ما هكذا تورد الإبل يا سعد.."، فالسياسة كما باقي العلوم الإنسانية تحتاج فوق الدراسة والشهادة العلمية إلى الخبرة الميدانية.

إن من واجبي أن أقرع جدار الخزان وأن أفكر بصوت مسموع، وأن أُذكّر بعضهم، حتى لا يستبينوا النصح إلا في ضحى الغدِ، أي بعد أن تكون الأرض قد شربت ماءها، وخربت مالطا..!!

إننا تربينا في هذه الحركة الإسلامية على الحكمة القائلة: "سنشد عضضك بأخيك"، وإن "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية"، فلماذا يحاول البعض تضييق واسعٍ، ويلزمنا رأياً يأخذنا إلى مجاهل الغيب، فيما نحن قادرون على الرؤية والاستشراف.

يا أخي يا أبا الحسن.. إنني في هذا العمر المتقدم، أجد نفسي كمن أدرك بأن الوقت الأصلي للعمر قد انتهى، وهو يلعب – الآن - في الوقت الضائع، وهذا يوجب عليه أن يُسرع الخطى، ويعاظم التركيز وأن يُحكم تسديد الضربات باتجاه المرمى، فكلُّ دقيقة لها قيمتها وحسناتها التي نرجو... إنني أدعو الله أن يكتب لي الشهادة في سبيله، وأن يودّعني إخواني إلى مثواي الأخير، وأن لا أُحرم بركة دعائهم، وأن يكون لي من أثر الخير ما يُذكّر الناس بالدعاء لي في ظهر الغيب.

وختاماً: باقون على العهد

في كل لقاءاتي الكثيرة معه، كنت أشعر أنني أجلس مع صحابي جليل، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه..

واليوم، كلما تذكرتك يا أبا الحسن، تذكرت كل ما هو جميل في حركتنا، فأنت عنوان الخير وبوصلته.. "افتقدناك يا أبا الحسن.. ووالله لقد شعرت بعدك - حقاً - باليُتم التنظيمي وجفوة الشعور بعمق الانتماء.. نعم؛ هناك في العائلة الإخوانية الكثير من الأعمام والأخوال، ولكني حقيقةً فقدت الرجل أنيس الدرب، وصاحب الحكمة، والأب الحاني، وكبير العائلة".

وكلما التفتُّ حولي - ونحن نودع متوفى أو شهيد - وجدت أضرحة للشهداء من إخواني، الذين جمعتني بهم ذكريات لا تُنسى.. اليوم، عزَّ يا أبا الحسن أن تجد مقاماً في التضحية والفداء والصحبة والولاء والمروءة والوفاء بمثل تلك القامات التي سبقتنا بالشهادة والإيمان.. نحن - اليوم - نعاني من الحُسَّاد والمشككين في كل ما نجتهده من الرأي أو نراه من تقديرات للموقف السياسي، حيث ضاق الأفق وكثر – للأسف -  أصحاب الوتوتات والتغريدات والمتربصون بإخوانهم؛ غفر الله لنا ولهم، وحفظنا على المحجة البيضاء، حيث تتجلى صور الوفاء والولاء، وأعاننا على القيام بواجباتنا تجاه دعوتنا العظيمة وجنودها صناديد الرجال.

رحمك الله يا أبا الحسن رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.