خبر : التواطؤ الدولي في حرب القدس ...بقلم: مهند عبد الحميد

الثلاثاء 04 نوفمبر 2014 11:19 ص / بتوقيت القدس +2GMT



نتنياهو أول سياسي إسرائيلي يخوض معركة القدس بهذا المستوى السافر والمتغطرس الذي لا يحتاج الى رتوش ولا مساحيق. فمنذ صعوده للحكم وهو يضع كل ثقل حكومته اليمينية المتطرفة لحسم السيطرة على مدينة القدس مرة واحدة والى غير رجعة. لقد تجاوز نتنياهو خطوط أطماع التوسع الكولونيالي المتعارف عليها لدى أسلافه من رؤساء الحكومات ليبلغ الذروة الآن. انه يضرب عرض الحائط بالمواقف والأولويات الأميركية التي لا ترغب الآن في حدوث انفجار بسبب مدينة القدس. لم تحترم حكومة نتنياهو أولويات إدارة اوباما رغم أنها شكلت الغطاء السياسي للانتهاكات الإسرائيلية الفادحة، واتخذت المواقف المؤيدة للسياسة العدمية الإسرائيلية. فانفردت حكومة نتنياهو من دون الحكومات السابقة في إحراج الإدارة الأميركية والتمرد على أولوياتها.
لا يمكن رؤية ما يجري من استباحة مجنونة للقدس باعتباره دعاية لانتخابات مبكرة كما ذهب أقطاب الإعلام الإسرائيلي في تفسير ما يجري. فالتغلغل الاستيطاني الكولونيالي والتهويد والتطهير العرقي هو الثابت الوحيد قبل وأثناء وبعد الانتخابات الحالية وكل انتخابات. وثبت انه بوجود ذرائع او بعدم وجودها، وبوجود عملية سياسية أو بانهيارها، وبوجود عنف او هدوء فإن التحويل الكولونيالي الثيوقراطي العنصري يمشي على قدم وساق داخل مدينة القدس وفي محيطها وفي حالة سباق مع الزمن.
تنكرت حكومات إسرائيل لكل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة واليونسكو حول مدينة القدس، وتنصلت من رسالة الضمانات التي تعهد بموجبها شمعون بيريس وحكومة رابين بعدم المس بمكانة مدينة القدس. كانت البداية بإغلاق المؤسسات المقدسية "بيت الشرق وعشر مؤسسات أخرى" وتحول قرار الإغلاق من قرار مؤقت إلى قرار دائم. ومضت حكومات الاحتلال المتعاقبة باستباحة المدينة عبر مضاعفة الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري وعمليات التهويد ومارست مؤخراً نوعاً من التطهير العرقي في المدينة كطرد السكان وهدم منازلهم وقمعهم والتضييق عليهم الى مستوى الخنق الذي اضطر أعداداً كبيرة لمغادرة المدينة. لقد تم عزل المدينة بالكامل عن مدن الضفة الغربية وعن العالم الخارجي.
الجديد في الأمر أن حكومة نتنياهو انتهكت الاتفاقات المبرمة مع الأردن (المعاهدة الأردنية الإسرائيلية) بشأن السيادة الأردنية على المسجد الأقصى، محاولة فرض سيادة إسرائيلية تسمح بتقاسم المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود كما حدث في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل. هناك محاولات دائمة لاقتحام المسجد الأقصى من قبل وزراء ورجال دين ومنظمات الاستيطان الدينية القومية بدعم من الحكومة لجعل السيادة الإسرائيلية أمراً واقعاً. وهناك مشروع قرار يقضي بإنهاء السيادة الأردنية على المسجد الأقصى كان أقطاب في الائتلاف الحاكم ينوون عرضه على الكنيست من اجل إقراره. وقد اضطر نتنياهو وحكومته للتأجيل وإعادة الالتزام "اللفظي" بالاتفاقات السابقة على وقع التهديد الأردني بالتراجع عن المعاهدة الإسرائيلية الأردنية وفي ظل حالة الاحتقان التي شهدتها فلسطين والأردن رداً على المواقف الإسرائيلية شديدة الاستفزاز. إن وعد نتنياهو بتهدئة الأوضاع في القدس دون ان يرتبط ذلك بوقف الإجراءات التي أشعلت الوضع. كالاستيطان وهدم المنازل وتقييد حرية العبادة وسياسة خنق المدينة العربية وعزلها الكامل عن محيطها الفلسطيني، والاهم من ذلك دون التراجع عن سياسة تعميق الاحتلال وبناء نظام الفصل العنصري.
أخطر ما في الأمر هو مساعي اليمين القومي المتطرف الرامية الى تحويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الى صراع ديني وحرب دينية وما يعنيه ذلك من إغلاق اي افق للحل السياسي وتعزيز قوى التطرف الديني في عموم المنطقة. وبهذا المعنى فإن حكومة نتنياهو الداعمة لليمين القومي العنصري تعزز منطق "داعش" الذي يقوم على فرض سيطرة وحكم ديني أصولي إرهابي، وهناك قوى متطرفة يهودية لا تقل سوءاً عن "داعش" تعمل داخل مدينة القدس ليل نهار وتتدفق عليها الأموال بسخاء ما بعده سخاء. وليس في ذلك غرابة عندما "تعتمد إسرائيل في وجودها كدولة على العهد الميثولوجي لإبراهيم مع الله"، كما يقول شلومو ساند، وليس على القرار الدولي، فإنها تدوس على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وتستبدلهما بنص ديني موجود في كتاب "التناخ" ومتضمن في ميثة نفي الشعب اليهودي التي غرست في ذاكرة نسبة كبيرة من الشعب الإسرائيلي. ويعبر نتنياهو وحكومته عن الوعد وعن عودة الشعب المقتلع إلى ارض الميعاد، والى الحق الديني في المكان.
إن دولة في القرن الواحد والعشرين تلتزم بأساطير دينية عوضاً عن ميثاق الأمم المتحدة والقوانين والمعاهدات الوضعية بصفتها الناظم الوحيد للعلاقة بين الدول والشعوب في حالتي الحرب والسلم. هذه الدولة لا يوجد مثيل لها إلا الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام "داعش" مع فارق كبير وهو أن دولة الشعب المختار يعترف بها دول كثيرة وفي مقدمتها الدول العظمى، التي تتساهل مع أطروحاتها الدينية التعصبية وتطالب الشعب الفلسطيني وحركته السياسية الاعتراف بدولة يهودية كبديل لدولة إسرائيل العلمانية. مقابل دولة "داعش" الدينية التي لا تعترف بها أية دولة، بل يحاربها حلف دولي كبير بقيادة أميركا. إن السكوت الدولي على استبدال القانون الدولي والشرعية الدولية بأساطير دينية وبميثات من صنع الهستوريوغرافيا الصهيونية غير المسنودة بالعلوم الحديثة وبمكتشفات الآثار والدراسات التاريخية يشكل انحرافاً خطيراً في العلاقات الدولية، انعكس وينعكس سلباً على ثقافة الشعوب وعلى النكوص الى صراع وحروب دينية. يجوز القول إنه في ظل استبدال القانون الدولي بالوعد السماوي المغلف بتواطؤ دولي مخزي، فإن حكومات إسرائيل السابقة والحالية والمستقبلية لا ولن تتورع عن ضم القدس وممارسة التطهير العرقي فيها واعتبارها مدينة داود بدلاً من مدينة القدس. وإذا ما تم اعتماد إسرائيل للدين كمرجعية وحيدة في الصراع، فلن يستطيع أحد منع الشعوب والدول الإسلامية من اعتماد الدين كمرجعية وحيدة في الصراع. ولا أحد يمنع المتشددين المسيحيين من اعتماد الدين كمرجعية وحيدة. هل نحن على موعد مع تجديد الحروب الدينية؟ نعم، هذا ما يحدث في العراق وسورية واليمن ولبنان والقدس، هذا ما بادرت إليه الدولة اليهودية أولاً.
Mohanned_t@yahoo.com