خبر : هذه الحرب ...بقلم: حسين حجازي

السبت 09 أغسطس 2014 11:19 ص / بتوقيت القدس +2GMT





ليس سوى الحرب وقد تصاعد الخفقان الذي يصاحبها حتى بلوغ الذروة المأساوية، ما يمثل لحظة الكشف الحقيقية بشأن المواقف كما المصالح والطبائع الأخلاقية وحتى الغرائز الدفينة الآدمية وغير الآدمية، بمجموع الأطراف المنخرطين مباشرة بالحرب او بطريقة غير مباشرة. ان الحروب الكبيرة هي لحظات الحقيقة في التاريخ وبوصفها كذلك فإنها البطاقات التي تمنح الأحداث علاماتها وأسماءها.
هذه حرب لا تشبه الحروب السابقة ولأنها كذلك فهي حرب لها ما بعدها، وقد أسدلت الستارة على عهد قديم، وهي في امتدادها للحروب الثلاث القديمة التي سبقتها تحمل في أحشائها تلك التحولات: حرب العام 1948، وحرب العام 1967، وحرب العام 1982 بحيث لا يعود الواقع هو نفسه.
هذه لحظة الكشف التي نقف فيها وجهاً لوجه نحن الفلسطينيين والإسرائيليين، مجردين من أية أردية او أقنعة. هكذا نحن الأعداء الحقيقيين نقف وجهاً لوجه كلانا أمام الآخر، لكيما نعيد ربما للمرة الأخيرة التحديق كل منا في عين الآخر، ليعرف كلانا الآخر. "اعرف عدوك واعرف نفسك" وها نحن نعرفكم يا إسرائيل وها نحن نعرف أنفسنا وتعرفوننا. لا أعيد ترديد الكليشيه القديم: لن تهزموا شعباً يملك شعوراً عميقاً إزاء نفسه، كما اننا لن نهزمكم بالضربة القاضية. ولكن أو ليست هذه الحرب هذه المرة التي تتمكن فيها الجيوش الصغيرة المزودة بروح قتالية وحيلة تكنولوجية مبتكرة من ان تضع خطاً فاصلاً على الرمال او عنواناً على الحائط وترسم صورة فيها للنصر وتهزم الجيوش الكبيرة ؟
هذه حرب تعيدنا الى نقطة البداية الى ما قبل العام 1948، موحدين في الجغرافيا وفي التلاحم السيكولوجي وكأن غزة التي انسحبت اليها الجيوش العربية العام 1948، تعاود منها الحرب استكمال حركاتها ولكن هذه المرة: هذه هي فلسطين وهذا هو جيشها.
لكن في أثناء هذه الحرب التي تستحضر أحط أشكال حروب القرون القديمة وحشية، حيث تتحول بيوت الناس الآمنة الى قبور، فان هذا وقت للصمت والتأمل في الطبائع الوحشية المخزية لبني الإنسان، التي لم تقو جهود التحديث والتمدن على مدى العصور الماضية على محوها او استئصالها. والمفارقة اليوم ان الضحية هي التي تحترم وتراعي قوانين الحرب وطهارة السلاح، بينما إسرائيل الأكثر ادعاء حول تفوقها ونفاقاً حول مدنيتها هي التي تواصل هذا السجل من ارتكاب الفظائع في سعيها الى ما تسميه كيّ وعي الفلسطينيين.
ليس سوى الحرب، حرب وحشية وقد تجردت من كل قوانين الحرب وأخلاقياتها ونكون نحن بأنفسنا وقد قادنا سوء الطالع الى ان نكون وقودها وشهودها في الآن نفسه، ما يحيلنا الى هذه التأملات الصامتة في المعاني الإنسانية للتاريخ، أسئلة الوجود الأولى الفلسفية والفطرية بأكثر من انقيادنا الى البحث العقيم او المترف عن الدلالات السياسية المباشرة لهذه الأحداث.
ليخرس او يصمت او يتوقف او يمُت كل الكلام الآخر أمام هول ورهبة هذا الدم المستباح والمسفوك دون اي وجل او تردد، او خوف. هذا اللحم المذبوح في مستشفى دار الشفاء، اللحم الذي ذبح على أكبر مجزر بشري في التاريخ، فلم تكن أسلحة الجيوش القديمة لان تفتك بأعدائها الى هذه الحد حتى رغم مبالغات كتاب التاريخ الذين سخر منهم وفند ادعاءاتهم ابن خلدون. وكأن المدينة تحمل شيئا في قدرها من اسمها. هكذا من فجر التاريخ والى يوم الدين.
يا غزة أنت الجرح وانت العزيزة، يا غزة ما كان لهم ان يقدروا عليك يا غزة ولن يقدروا عليك. هكذا كان وهكذا سيكون. تحملين جرحك، إكليل مجدك كعار أبدي على رؤوسهم يخلد أبد الدهر عارهم الأخلاقي كما جريمتهم وهزيمتهم.
لن يمدد للهدنة صباح الجمعة في ظل مزاج غزي مفعم بيأس عظيم، حاله: إما نحن و إما هم. إما رفع الحصار مرة واحدة والى الأبد أو هي الحرب حتى النصر أو الموت. وعلى طريقة مثلهم الشعبي عن الشريك السيئ الذي لا مناص من أن تخسر وتخسره معك. ولما كان هؤلاء البائسون قد خسروا كل شيء فليس لهم ما يخسرونه بعد ولم يتبق لهم شيء. فإن هذا الطرف الفقير والمعدم واليائس هو الذي يكسب بالأخير في مواجهة الطرف المترف والذي لديه ما يخسره.
لقد قرروا قلب المعادلة بالذهاب الى حرب أشبه بمناوشات طويلة الأمد بضرب أهداف الفرص المنتقاة بأكثر من الذهاب الى توسيع نقاط العمليات، وأظن ان إسرائيل ستفعل الشيء نفسه اذا كانت تخوض الجولة الثانية، وقد فقدت الشرعية الأخلاقية وما عاد أمامها أهداف مدنية تضربها، وقد بالغت في استخدام قوتها الوحشية الى الحد او الدرجة التي ما عاد بمقدور العالم ان يتحمل اكثر او المزيد من هذه الصور.
وبلغنا أخيراً هذا التفاوض على طريقة كيسنجر وعرفات، التفاوض على إيقاع ساخن او الاشتباك التفاوضي بالنار. وهذه هي النقلة النوعية لما يحدث.

إطار: ثلاث حقب:
١- الحقبة الأولى: من معركة الكرامة عام 1968 حتى أيلول 1982 معركة بيروت. حقبة الكفاح المسلح بقيادة حركة فتح.
٢- الحقبة الثانية: الانتقال الى الداخل، الانتفاضة الأولى والثانية من العام 1987حتى محاصرة عرفات واغتياله في المقاطعة العام 2004. الكفاح السلمي وغير السلمي، الحربي وغير الحربي المزدوج والمركب.
٣-الحقبة الثالثة: حروب غزة من العام 2008 حتى 2014.
الجيوش الصغيرة والجيوش الكبيرة:
1- إن الجيوش الصغيرة يا إسرائيل، الجيوش الصغيرة الأكثر تنظيما واستعدادا للقتال، إنما هي التي تنتصر على الجيوش الكبيرة. وهكذا كنتم في العام 1967 ولكن هكذا تنقلب الأدوار في حروبكم الأخيرة مع الجيوش الشبكية للقوى الجديدة الصاعدة، خصوصا في الشرق الأوسط من خارج الجيوش الدولانية التقليدية: فتح 1982 في لبنان وحزب الله 2006 وحماس اليوم.
2- تنتصر الجيوش الصغيرة حسنة الإعداد والتدريب على الجيوش الكبيرة لانها اكثر إدراكا لعوامل ضعفها وقصورها، وتداركا للتعويض عن هذا النقص بالقدرة على تنظيم الأعداد الصغيرة في الميدان، وبالفطنة والجرأة على مباغتة الخصم وإخفاء قوتها تحت الأرض، حتى تصبح ضربات العدو المتفوق بالنيران كانها خبط عشواء. بينما تهزم الجيوش الكبيرة لأنها اكثر غرورا وافتخارا بقوتها وثقة بالنصر، وهو ما عبر عنه أرسطو مبكرا الذي كان أستاذ الإسكندر المقدوني ويستشيره، وهذا الأخير الذي هو واحد من اعظم الاستراتيجيين في كل صغيرة وكبيرة : "إن القوي هو آخر من يعلم بالحقيقة يا إسكندر". وحين قال نابليون مرة ان الله يحارب مع الجيوش الكبيرة، فقد ظل يتوجس من هذا الجزء الإلهي اذا كانت الجيوش الكبيرة تذهب الى ميدان الحرب، وهي على ضلال وانحراف عن العدالة الإلهية ومبادئ هذه العدالة الإنسانية.