خبر : تحولات الفكر السياسي لـ "فتح" من خلال وثائق مؤتمراتها ...ماجد كيالي

الثلاثاء 01 يوليو 2014 04:01 م / بتوقيت القدس +2GMT
تحولات الفكر السياسي لـ "فتح" من خلال وثائق مؤتمراتها ...ماجد كيالي



يبدو أن حركة "فتح" قد حسمت أمرها بشأن عقد مؤتمرها العام السابع في أغسطس/آب القادم في بيت لحم، إذ ثمة ورشة عمل ناشطة للإعداد لذلك، وثمة لجنة تحضيرية، وحديث عن مشاركة حوالي ألف من قيادات الحركة وكوادرها.

وفي حال حصل ذلك فإن هذا المؤتمر سيكون الثاني من نوعه، الذي تعقده "فتح" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد مؤتمرها السادس (2009)، الذي عقد بعد تحول مركز العمل الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، والثاني من نوعه، أيضا، الذي يعقد بعد رحيل مؤسسها وقائدها ومهندسها ياسر عرفات.

معلوم أن هذه الحركة تواجه تحديات جمّة تتعلق بالإجابة على الأسئلة المتعلقة بانسداد خيارها التفاوضي، وتحولها من حركة تحرر وطني أو حركة مقاومة مسلحة إلى مجرد سلطة، مع تآكل دورها النضالي في مواجهة إسرائيل، وتراجع شعبيتها في مجتمعها، وترهّل بناها، ووجود منافس لها (حركة حماس)، ما يتطلب منها حث الجهود لاستنهاض وضعها، وتجديد حيويتها، وإدخال تغييرات على قياداتها وخطاباتها وأشكال عملها.

لذا ربما من المفيد، في هذا السياق، إجراء قراءة أولية في التحولات الحاصلة في الفكر السياسي لحركة "فتح"، في مرحلة صعودها وهبوطها، التي امتدت زهاء نصف قرن، في مسيرة كفاحية طويلة ومضنية ومعقّدة، لملاحظة أين كانت هذه الحركة وأين أضحت، وكيف بدأت وكيف انتهت، وكيف شبّت وكيف هرمت، أولا، من مدخل الأهداف والطموحات. وثانيا، من مدخل الوسائل أو الأشكال النضالية التي اعتمدتها لتحقيق تلك الأهداف.

وكانت حركة "فتح" عرّفت الأفكار السياسية المؤسّسة لها في مجموعة "المنطلقات والأهداف والأسلوب"، التي أصدرتها في أواخر الستينيات، وباتت تتكرر كلازمة في مجمل أدبياتها وخطاباتها، ولاسيما في مقدمة وثيقة النظام الأساسي الذي تقرّه مؤتمراتها (على الأقل حتى المؤتمر الخامس).

وقد انطلقت هذه الأفكار من اعتبار أن "فلسطين جزء من الوطن العربي" (المادة 1) وأن شعبها هو "صاحب الحقّ في تقرير مصيره والسيادة على جميع أراضيه" (المادة 2)، وأن "القرارات التي صدرت أو تصدر عن هيئة الأمم المتحدة، أو مجموعة من الدول.. والتي تهدر حق الشعب الفلسطيني في وطنه باطلة ومرفوضة."(المادة 6) لأن "الوجود الإسرائيلي في فلسطين هو غزو صهيوني عدواني وقاعدته استعمارية توسعية..." (المادة 8).

أما الأهداف، كما حددتها "فتح"، فتتمثل في "تحرير فلسطين تحريرا كاملا وتصفية الكيان الصهيوني اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا" (المادة 12). وهذا طبيعي لأن هذه الحركة انطلقت قبل حرب 1967، أي أن تعريفها لفلسطين كان كاملا ولم يكن يقتصر على الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع.

اللافت في هذه الأهداف تبني "فتح" في فترة مبكّرة من تاريخها لهدف الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية، في النص الذي تضمن "إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية.. على كامل التراب الفلسطيني تحفظ للمواطنين حقوقهم.. على أساس العدل والمساواة من دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة" (المادة 13). ومعنى ذلك وقتها حل المشكلة اليهودية أو مستقبل اليهود في فلسطين، بما يتضمنه ذلك من التمييز بين الصهيونية واليهودية، وتحرير اليهود من الصهيونية، وكانت هذه فكرة لافتة ورائدة آنذاك.

أما من جهة الوسائل وأشكال النضال فقد أكدت "فتح" بأن "الثورة الشعبية المسلحة هي الطريق الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين." (المادة 17)، وأن "الكفاح المسلح لن يتوقف.. إلا بالقضاء على الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين" (المادة 19). اللافت، أيضا، أن هذه المبادئ تضمّنت، أيضا، "مقاومة الحلول السياسية المطروحة كبديل عن تصفية الكيان الصهيوني" (المادة 22).

الآن، وبصرف النظر عن رأينا، أو تقييمنا، لهذه الأفكار، ومدى نضجها، أو مقاربتها للواقع، ولإمكانيات الفلسطينيين، فإنها هي التي شكّلت هوية "فتح"، وميّزتها عن غيرها، وساهمت في تعزيز شعبيتها، في بيئة كانت تعجّ بالأيديولوجيات والأطروحات القومية واليسارية والإسلامية.

لكن هذه الحركة لم تصمد على مواقفها تلك، كما هو معروف، إذ مع الزمن، أدخلت عليها تغييرات نوعية عديدة، بفعل التحولات والتطورات والضغوطات الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية والإسرائيلية، حتى أن ثمة أفكارا ومنطلقات وأهدافا تم شطبها نهائيا، لكن هذا الأمر حصل بعد انتهاء ظاهرة المقاومة المسلحة في الخارج، وتحول مركز ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، بعد الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، ولاسيما بعد عقد اتفاق أوسلو (1993) وإقامة كيان السلطة، وعلى وجه الخصوص بعد رحيل قائدها ياسر عرفات.

في هذا السياق قد يجدر بنا التنبيه إلى ثلاث مسائل. الأولى، أن المبادئ المذكورة تم تضمينها في الوثائق الصادرة عن مؤتمري "فتح" الرابع (دمشق 1980) والخامس (تونس 1989)، على رغم التغييرات النوعية الحاصلة في السياسة الفلسطينية، والتي انتهجتها قيادة هذه الحركة بالذات، منذ ذلك الوقت، من موقعها في قيادة منظمة التحرير، والتي تجسّدت في التحول من هدف التحرير إلى هدف إقامة سلطة أو دولة في أي جزء يجري تحريره، منذ أقرّ ما بات يعرف بـ "البرنامج المرحلي"، في الدورة (12) للمجلس الوطني الفلسطيني (1974).

ولعل ذلك يكشف حقيقة روح المناورة عند هذه القيادة، ولامبالاتها بالإنشاءات السياسية مقابل تركيزها على السياسات العملية، واستخفافها بالفجوة بين الشعارات والممارسات، وتمييزها بين القرارات والخيارات، وهذه واحدة من أهم سمات عمل القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح في آن واحد).

والمعنى أن قيادة "فتح" ظلّت تتعمد التورية، والحديث بلغة مزدوجة، حتى ذلك التاريخ، بل إن مقررات المؤتمر السادس الذي عقد في بيت لحم، وبعد إقامة السلطة، بموجب اتفاق أوسلو، وبعد رحيل ياسر عرفات، تضمنت انتهاج "فتح" لكل أشكال النضال وضمنها الكفاح المسلح! وبديهي أن هذا مجرد كلام إنشائي الغرض منه ترضية قواعد الحركة وجمهورها، أكثر من أي شيء آخر، بدليل أن أبا مازن (رئيس فتح والسلطة والمنظمة) يعتبر أن التنسيق الأمني مع إسرائيل أمرا مقدسا.

أما المسألة الثانية، فتتمثل في أن قيادة "فتح" تجاوزت الأفكار الأساسية لحركتها، بتحولها من مشروع تحرير فلسطين، وإقامة دولة واحدة ديمقراطية، إلى مشروع إقامة دولة في جزء من فلسطين (الضفة والقطاع)، كما تحولت من انتهاج الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير فلسطين إلى انتهاج العمل الدبلوماسي، والمفاوضة، من دون أن تسعى إلى شرعنة كل ذلك بقرار جماعي يصدر عن تنظيمها، والأصحّ أنها لم تشعر بضرورة ذلك، بحكم هيمنتها على الحركة، والمنظمة، بدليل أن الأمور سارت كما سارت عليه، رغم ظهور خط معارض في "فتح" لهذا التوجّه، في حينه.

المسألة الثالثة التي ينبغي الانتباه إليها، في هذا المجال، مفادها أنه إذا كان المؤتمر العام الخامس لهذه الحركة أدخل تعديلات على بعض منطلقات الحركة وأهدافها ووسائل نضالها، انسجاما مع "البرنامج المرحلي" المتعلق بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، ومع برنامج "الحرية والاستقلال" المقر في المجلس الوطني الفلسطيني (الجزائر 1988)، فإن المؤتمر العام السادس للحركة كان حذف نهائيا الأفكار المؤسسة لحركة "فتح"، والتي ذكرناها سابقا، كأننا بتنا إزاء "فتح" أخرى، وإن مع نفس الأشخاص تقريبا!

مثلا، فقد لخّص هذا المؤتمر، في عبارة واحدة، مراحل مهمة عديدة من التجربة الوطنية الفلسطينية، دون أن يصدر أي دلالات سياسية بشأنها، وبدون أي نظرة تقييمية أو نقدية، وذلك في قوله:

"في 9 ديسمبر/كانون الأول 1987.. انطلقت انتفاضة الحجارة.. ليعلن بعدها المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 قيام دولة فلسطين.. وجاءت حرب الخليج (1990) وانهيار الاتحاد السوفياتي وخسارتنا لصديق كان دائما إلى جانبنا، وخسارتنا العربية في العراق والخليج، وبروز القطب الأميركي الأوحد في العالم، فكان لزاما علينا إعادة النظر في إستراتيجيتنا المرحلية واغتنام فرصة التحرك بالسلام، فكانت عملية السلام وقيام السلطة الوطنية التي فتحت الأبواب لتحرير المدن الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، ولبناء مؤسسات الدولة المستقلة القادمة، ولاعتراف دولي كبير وعلاقات سياسية واقتصادية وتجارية مع دول العالم، وإنجازات داخلية كثيرة على الصعيد السياسي والدستوري والاقتصادي.".

علما بأن هذا الكلام جاء عام 2009، أي بعد إخفاق مفاوضات كامب ديفيد2 عام 2000 وتجربة الانتفاضة الثانية، وخسارة فتح في الانتخابات التشريعية (2006) وسيطرة حماس على غزة، والحرب الإسرائيلية على غزة، وبعد تبيّن الأغراض الإسرائيلية من اتفاق أوسلو، على ضوء تجربة عمرها 16 عاما!

وعليه، فقد صدرت عن هذا المؤتمر عبارات عامة لا تتناسب مع حركة سياسية قادت كفاح شعب، قدم كل تلك التضحيات، من مثل أن أهدافها "تحرير الوطن وإنهاء استيطانه"، وفي حي أن "الوطن" بات مختزلا في الضفة والقطاع (على الأكثر) فإن كلمة "تحرير" لا دلالة لها.

أما قضية اللاجئين فجرى الحديث عنها بعبارات تتضمن تأكيد حقهم "في العودة والتعويض، استنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة، وقرار الجمعية العامة رقم 194"، و"ضرورة تفعيل وتعزيز دور الجاليات الفلسطينية"، و"إشراك الفلسطينيين في الشتات في أنشطة الحركة والمنظمة"، و"التصدي لمساعدة أبنائنا في الشتات عند تعرضهم للأخطار، كما حدث لأبناء شعبنا المقيمين في العراق".

بالنتيجة فقد شرعن المؤتمر السادس للتغيير الجاري في "فتح" منذ انتهاء الظاهرة المسلحة في الخارج (1982)، ولاسيما منذ تحوّلها إلى سلطة (1994)، وهو التحول الذي تم حسمه نهائيا بأفول الانتفاضة الثانية، ورحيل ياسر عرفات (2004)، بحيث بتنا إزاء "فتح" أخرى، على رغم استمرار معظم الطبقة السياسية التي أسّستها.

والفكرة الثانية أنه منذ ذلك التاريخ بات ثمة تطابق بين بنية "فتح" وفكرها السياسي، إذ أنها في عهد الرئيس أبو مازن، وهو قائد فتح ورئيس المنظمة، لم تعد بحاجة إلى الازدواجية التي كانت.

هذا يفيد بأن تحول "فتح" نحو التسوية في مطلع السبعينيات لم يحدث نتيجة تطور في الثقافة السياسية لـ"فتح" كحركة، ولم يشرّع في مؤتمراتها، وإنما اتخذ هكذا خيارا في إطار اللجنة المركزية فقط، وهو ما حدث مع اتفاق أوسلو (1993).

وبديهي أن كل العمليات السياسية، من المفاوضة إلى الانتفاضة، لم تدرس في الأطر القيادية، ولم تكن وليدة ثقافة سياسية أو حوارات داخلية، ولم تأت نتيجة إعدادات ميدانية.

يستنتج من كل ذلك أن الحركة الفلسطينية لم تكن تولي اهتماما مناسبا لفكرها السياسي، وأن الطبقة القيادية فيها هي التي تتحكّم بتقرير الخيارات الكبرى، وأن الديمقراطية لا تشتغل جيدا في الحقل السياسي لفصائل الفلسطينيين، وضمنها "فتح".

طبعا، ليس القصد هنا نفي شرعية التغيير في التفكير السياسي للحركات والأحزاب، فهذا أمر محمود، على أن يأتي نتيجة لتفاعل داخلي، وكمحصلة عملية ديمقراطية، وفي سياق الإغناء والتطوير، مع المحافظة على الهدف الأساس، أو الروح التي شكّلت هذه الحركة أو الحزب، وهي بالنسبة لـ "فتح" تتحدد في تعزيزها هوية الفلسطينيين وكيانيتهم السياسية، واستمرار كفاحهم لتقويض المشروع الصهيوني الاستعماري والعنصري، الذي تمثله إسرائيل.

على أية حال من الصعب توقع نجاح حركة "فتح" بتقديم الأجوبة الصحيحة على الأسئلة المطروحة، فربما فات الوقت على ذلك، لاسيما مع حال الترهل التي تشوب بناها، وتراجع أهليتها الكفاحية، ومع انحصارها في خيار المفاوضات وتماهيها مع السلطة.

ـ الجزيرة نت ـ