خبر : الفلسطينيون بين خطابين ...حسين حجازي

السبت 24 مايو 2014 08:52 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الفلسطينيون بين خطابين ...حسين حجازي



الفلسطينيون بين خطابين: إذا أردتم تثبيت الناس لا تنظروا إلى نصف الكأس الفارغ فقط
بقلم: حسين حجازي

الى جانب تأملاتهم الفلسفية العميقة في الوجود والحياة، والتي لا سابقة لها في ثرائها الفكري بين الحضارات القديمة، وشكلت بمجموعها مجمل الأسئلة والأجوبة التي لا يزال يطرحها العقل البشري علي نفسه، فإن أولئك الحكماء الإغريق الأوائل وجدوا وقتاً كافياً في خضم هذا العصف الفكري الأكثر أهمية في التاريخ للاعتناء بالخطابة في عصرهم.


وقد خلف لنا أرسطو أول كتاب من نوعه يتحدث عن أشكال الخطابة ويقدم النصيحة للخطيب كيف يصوغ خطابه، وهو كتاب شيق وممتع لا يقل عبقرية عن كتابه الآخر والأكثر شهرة عن السياسة. كما ترك لنا أفلاطون تلميذ سقراط كتاباً آخر جرياً على عادته في أسلوب المحاورات، الذي انفرد انتهاجه في معظم كتبه بين سقراط وتلاميذه بعنوان الخطيب.


وفيما بعد سوف تخلد كتب التاريخ أشهر الخطباء في عصر الامبراطورية الرومانية بعد براكليس الإغريقي، وهذا الخطيب الذي عمت شهرته الآفاق بقوة حجته وبلاغته وحتى وازت شهرته شهرة شاعر اليونان هوميروس، ليس سوى شيشرون السناتور في مجلس الشيوخ الروماني الذي كان الأباطرة الرومان يحسبون كل الحساب لقوة لسانه، تماماً كما كانت الأمبراطورية البريطانية في وقت لاحق تخشى من لسان أديبها العظيم برنارد شو، الذي قال هو عن نفسه مرة ان لسانه أقوى من أساطيلها البحرية، ذاك الذي لا تزال بعض عباراته الساخرة تتردد في أروقة اعرق برلمانيات أوروبا.


وهل كنا لنمضي في هذا السرد عن الخطابة دون ذكر الرسول محمد والخلفاء الراشدين، ابو بكر على وجه الخصوص؟ وفيما بعد خطباء الثورة الفرنسية ولينين زمن الثورة الروسية، وصولا الي زمن القوميات الفاشية في أوروبا هتلر وموسوليني ؟ الذين كانوا جميعاً خطباء ترتج لوقع كلماتهم الجموع الحاشدة في الساحات، وهي الخطابة التي ستجد في زمن متأخر صدى لها، يحاكي حماستها التمثيلية كما عنفوانها في عقد الخمسينات والستينات، لدى زعماء حركات الاستقلال في دول الجنوب إجمالا إبان سنوات الكفاح الوطني ضد الاستعمار، عبد العزيز الثعالبي والقوميين العرب في المشرق.


هكذا كأن الخطابة ولدت من رحم الصراعات والتحولات السياسية الفكرية والأيدلوجية الكبرى في التاريخ، وكأنها التعبير عن هذه الأزمات السياسية حينما صعد في كل مرة منابر قادة ومُخَلّصون، رجال كاريزميون وأنبياء قديسون، وحتى أقوياء وأفّاقون ومحتالون، ولكنهم يملكون هذه القدرة السحرية على التأثير في حشود كبيرة من الناس، لبث روح العزيمة والقوة في أفئدتهم وجعلهم يقاتلون وراء فكرة محددة، تنطوي على جاذبية الوعد بتغيير وضعهم البائس، وإنه بهذا المعنى فان الخطابة كانت جزءاً من روح القيادة بل ومن صناعة هذه القيادة وسحرها وقوتها.
فهل يمكننا الآن ان نتصور قدرة تشرشل القيادية في الحرب العالمية الثانية، حينما كانت ألمانيا تمشط بالقصف الليلي كل مدينة لندن من دون هذه القوى الشعبوية، التي كان يمتلكها تشرشل في خطاباته؟ كما زعامة ديغول التاريخية من دون نداءاته المؤثرة عبر البحار للفرنسيين، بينما كانت فرنسا محتلة بقضها وقضيضها بيد الألمان؟ بل وفي تاريخ أكثر قرباً هل يمكننا تصور كاريزما جمال عبد الناصر من دون خطاباته عبر إذاعة صوت العرب الموجهة الى العالم العربي؟ او فيديل كاسترو بالنسبة للكوبيين؟ وحتى أيامنا هذه رجب طيب أردوغان من دون هذه الخطابية التي تبدو للمستمع مثل هدير الأمواج العالية في ارتطامها على الصخر؟ او حتى ياسر عرفات من دون خطاباته الارتجالية او العفوية ولكن الشعبوية بامتياز، والتي تقتصر غالبا على بضع رسائل موجزة وجمل ذات دلالات محددة يكررها بين الحين والآخر، وكل ذلك في سياق تعبوي شعبي مؤثر في تناغم وانسجام مع إيماءات لغة الجسد التي تضفي على الخطاب قوته التعبوية الساحرة والمؤثرة. 

وكذا الأمر هل كان يمكن تصور كاريزما الحبيب بورقيبة من دون هذه الخاصية الخطابية في مخاطبة مشاعر التونسيين زمن الكفاح التحرري من أجل الاستقلال؟
إن الخطابة هي روح القيادة وهي تزدهر في الأزمات التي تكون فيها الشعوب بأمس الحاجة الى من يستطيع ان يخاطب فيها اجمل وافضل ما فيها، وما تنطوي عليه الذات الجماعية لا وعيها الباطني من قوة وعنفوان وسمو "وأنها تستطيع ". واليوم لعله ما كان بمقدور باراك أوباما التفوق او تحقيق هذا الاختراق من دون قدرته الواضحة على الخطابة، ولكن اليوم لماذا نسلط الضوء على الحديث الذي قد يبدو ترفا او زائدا، عن الخطابة وسط همومنا وانشغالاتنا الكثيرة ؟ فهل لأننا نشعر بالحنين إلى زمن الخطباء ولا يوجد في الساحة الفلسطينية اليوم خطيب؟ والجواب كلا، فالساحة الفلسطينية تزدحم بالخطباء والمساجد كذلك، ولكني أصارح القارئ بأنه في الأصل كنت أنوي ان أخصص هذه المقالة عن الخطابة في المساجد، وحيث الإسلام العبقري هو الذي ينفرد من بين الأديان بإيلاء هذه الأهمية الحاسمة، الاحتفالية إن شئتم في هذا الاجتماع الأسبوعي للخطابة، والتي كانت بمثابة أول تعبير ممأسس يسبق اختراع الصحيفة ووسائل الإعلام الأخرى كما وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة، عن أهمية هذا الاتصال الجماهيري الذي ينطوي على وظيفة حاسمة في تحقيق الأمن الاجتماعي للامة او الجماعة الوطنية ككل. وربما هذا هو المعنى الذي قصده كارل ماركس حينما أشار إلى أن الدين قد يشكل أفيوناً للشعوب او رافعةً تاريخية للتقدم.


سوف أعود لمناقشة هذه القضية التي لا يتسع لها المجال في هذه العجالة، ولكنني أتوقف هنا عند الضرورة الملحة التي يفرضها او يمليها واجب الوقت لأعرض بإيجاز إلى خطابين استمعت إليهما يوم الثلاثاء الماضي، احدهما للأخ خالد مشعل القي في الدوحة عاصمة قطر، والثاني لخطيب آخر من فصيل آخر القي هنا في غزة. والفارق بين الخطابين هو ما دعانا للتوقف عند هذه الدلالة التي تمثلها الخطابة في العمل السياسي.


واستطيع القول هنا ان خطاب مشعل الأخير في قطر لعله من اهم الخطابات التي ألقاها الرجل، وبذا يمكن وصفه بالتاريخي. فهذا خطاب على إيجازه ودقة عباراته وتناغم نبرة الصوت مع الدلالة والمعنى، هو خطاب لا يقول كلمته ويمشي بل يقول خطته وعرض قضيته ورؤيته وبرنامجه وموقف حركته، ليؤسس الى اتفاق ومشاركة حقيقية بتحمل المسؤولية عن اقتران الفعل بالقول. هذا خطاب نادر يصدر عن ممثل للإسلام السياسي، ولكنه في كل كلمة يقولها يظهر كقائد اقرب إلى محترف ومحرض ثوري من الطراز اللينيني الذي لا يرى في المقام الأول وهو مدرك للحرب على محور الزمن والوعي والجانب المعنوي، الى النصف الفارغ من الكوب وإنما إلى النصف المملوء. أي إلى الابداعية الفلسطينية والإنجازات على كل المستويات بما فيها إنجازات خصمه المفترض اي "فتح" على المستوى السياسي والدبلوماسي.


انه خطاب لا يثبط من عزيمة الشعب في ذكرى النكبة وإنما يرفع من عزيمته، ولا يدع الشك يتسلل الى اليقين بالنصر عند هذه اللحظة، وللذين ينتظرون من الانتهازيين والمنافقين من قناصي الفرص للصيد في الماء العكر، فهذه هي الجملة او الموقف التاريخي عن الفارق بين التنازلات الحميدة للأخ، ولمصلحة الجماعة الوطنية وعن التنازلات غير المحمودة والمرفوضة التي يمكن ان تقدم للعدو، وهذا هو فصل الخطاب كما يقال.


أما الخطاب الثاني فهو خطاب يتوشح بالمقاومة وكأنما المقاومة فعل مجرد خارج الاستراتيجية، ولكن من تحت هذه العباءة التي تتحول الى نوع من المزايدة، وقد جردت أو فصلت عن الواقع، يجري هنا التشكيك فكيف إذن يمكن بعد ذلك أن يستقيم التحريض على المقاومة، ونحن هنا ننكأ الجراح بدل ان نعض عليها ؟ والغمز من قناة المصالحة تحت ستار الخشية ان تكون جزءا من خدمة التسوية بدلا من ان تكون جزءاً من خدمة المشروع الوطني، وهل يوجد هنا مشروع وطني في ظل الانقسام؟ وما هي الدلالة التي يوحي بها هذا القول من أن عسكريا إسرائيليا يستطيع ان يتحكم بحركة اكبر زعيم فلسطيني؟ طيب ما الذي يهدف إليه هذا القول ان لا يتحرك قادة الشعب وزعماؤه ويجلسوا في بيوتهم يحضرون حفلات استحضار الجن ليخلصهم من هذا الوضع ؟ او انه عبثا كل تحركاتنا على الصعيد السياسي وغيره ما دام هذا العسكري الواحد هو الذي يتحكم بكل حركاتنا وسكناتنا.


لقد دعا أفلاطون الى حذف كل المشاهد في ملاحم الإغريق التي تظهر لحظات ضعف أبطالهم، لئلا تهتز صورة أبطالهم زعمائهم أمامهم. وفي هذه اللحظات المصيرية من صراعنا ما الذي يخدمه كل ذلك من تعميم القول بأن لا شيء سوى النكبات من حولنا؟ والغمز من قناة المصالحة طوال الوقت بالحديث عن الطامحين في المناصب والمجالس؟
وكان عرفات في وقت سابق يسمي هذا الخطاب بقوله " ثمة في الساحة الفلسطينية من يقول كلمته ويمشي". لأنه بين هذا الخطاب والنقد الموضوعي ثمة بون شاسع، لأن هذا النقد لا يمكنه ان يقوم او يمارس خارج سياق التفاعل الإيجابي مع الوقائع، بهدف ترشيد الفعالية الاستراتيجية، انطلاقاً من الظروف والمعطيات التي يطرحها الواقع، وكل ذلك في إطار من الحفاظ على الروح المعنوية للرتل والشعب، أما النقد المجرد فليس سوى محاولة لإفساد الوعي.