خبر : محمود درويش في زمن التكفير… سعاد العنزي

الأربعاء 19 مارس 2014 07:47 ص / بتوقيت القدس +2GMT
محمود درويش في زمن التكفير… سعاد العنزي



تابعت قضية منع دواوين درويش، وتساءلت عن المراجع التي تم بناء عليها تكفير درويش، وتم تزويدي برابط يبين مواطن الكفر عند محمود درويش. (1)
واليوم أريد الرد والتفنيد بناء على فهمي الخاص لقصائد درويش، وخبرتي في القراءات النقدية، ولكني أولا أريد أن أضع الأمور في سياقها التاريخي والاجتماعي.
لندرك أولا، إن دواوين درويش شاركت بالمعارض السابقة في السعودية، ولم تمنع وتسحب. فهل لم يوجد قارئ غيور على الدين في السعودية بعد خمسين عاما من ظهور درويش إلا اليوم ظهر قراء غيورين من قمقم القراءات الأيديولوجية الضيقة؟!
إذا كان الأمر أمر غيرة دينية ونحن لسنا ضدها، إذن فليذهبوا ويكفروا الشعر العربي جميعه من قديمه إلى حديثه، والأدب العربي كذلك.. محمود درويش ابن بيئته الشعرية العربية، فجميعها تنطلق من نفس الهاجس الحداثي في توظيف الأسطورة، والرمز و فكرة الآلهة في الحضارات الأخرى.. كما سأوضح بعد قليل.
إذن فليملكوا الشجاعة على تكفير العديد من الشعراء والأدباء العرب..
ثانيا: إن هذه الموجة في القراءات الاجترارية هي موجودة منذ فترة لدى الأخوة في السعودية، فهم يلوون عنق النصوص، ولا يكملون قراءة الكلمة في سياقها الحقيقي، ولا يطلعون على خلفية النص. مثلما حدث في رواية بدرية البشر ‘هند والعسكر’، وهذه قراءتي لتصحيح الرؤى التكفيرية فيها بعنوان ‘قراءة النوايا’ (‘)
ثالثا: أريد أن أتساءل عن دور الناقد السعودي تجاه هذه القراءات التكفيرية التي قد تودي بالأدباء إلى السجون والمشانق.. فقراءة الأدب ليس قراءة العناوين، ومدح المبدعين، واستحضار مصطلحات نقدية للاستعراض اللغوي، من دون قراءة التلقي الأدبي بإشكالياته المتعددة.
فإذا كان العامة يخضعون لفكر الإلغائيين والتكفيريين، فذلك لأنهم لم يجدوا من يكشف لهم الغطاء عن هذه الممارسات المغلوطة في قراءة النص. لذلك من المهم ظهور النقد السعودي لطرح التوازن الفكري بين هذا التيار وذاك. وأعول هنا على جيل النقاد الشباب كثيرا.
رابعا: أريد تذكيركم بأن أعمال درويش موجودة في الانترنت فبإمكان أي سعودي قراءتها والاطلاع عليها. إذن لم تم السحب؟!
أنا هنا أرجح إنها ردة فعل اعتباطية مساوية في المقدار، لمنع بعض الكتب الدينية في المعرض قبل ذلك بأيام.. وإلا سيكون المنع للعديد من دوواين الشعراء العرب الذين يسيرون على خط موازي لدرويش..
ونحن لا نلومهم هنا، فهم متحمسون للدين بطريقة تعبوية تمنعهم من التفكير والقراءة الاجرائية المنهجية الموضوعاتية، وأتساءل : هل مثل هؤلاء الشباب قادرون على مواجهة الغرب بمثل هذه الطروحات أم هم قادرون على مواجهة الموتى فقط: كدرويش وأبي العلاء، وطه حسين.
والآن سأدخل بقراءة ما كتبوه في موقع غير موثوق به، واتحدى أن ينشر مثل هذا الكلام بجريدة رسمية أو مجلة أكاديمية رصينة ذات فكر معتدل.
بدأوا بسيرة حياة الشاعر واتهموه بالانتماء إلى الحزب الشيوعي الاسرائيلي، كما اعتبروا حبه لفتاة يهودية اسمها ريتا عارا وعيبا.
وطبعا كما هو معروف إنه في نقد الأدب لابد من مراجعة النص الأدبي نفسه، لا الربط بين حياة المؤلف ونصه بطريقة المحاسبة والاعدام..
ولنطلع على شيء من ظروف درويش التي حاسبوه عليها..
اولا : درويش لم يكن مواطنا فلسطينيا في السجلات الرسمية الاسرائيلية بل كان يعتبر متسللا، فلم يعش كأي فلسطيني طبيعي، وكان يعاني الأمرين من الحكومة الاسرائيلية.
ثانيا: درويش انتسب لهذا الحزب الذي انتمى له العديد من شعراء العرب في دولهم، لأنه كان منتشرا، وسائدا، ويعتبر أقل الأحزاب الإسرائيلية تطرفا مع الفلسطينيين. كما انه هو المنفذ الوحيد لأي مثقف فلسطيني محاصر للكتابة والتعبير عن الرأي، وشرح القضية الفلسطينية، وهناك فرق بين المنفذ الوحيد، و منفذ من منافذ الحياة المتاحة.
ولنتذكر إن درويش كان دوما بالسجون الاسرائيلية، وحتى عندما يخرج من السجن فكان عليه أن يذهب ويوقع في السجن كل يوم الساعة الرابعة.
فأين الارتماء في الحضن الشيوعي، وأين امتيازات هذا الارتماء، من يرتمي في حضن حزب يعني الغنى والراحة لا القمع والتعنيف.
ولنتذكر جميعا اليوم بواقعنا الراهن، إن الإسلاميين ارتموا في أحضان إسرائيل، وهم مختاروون ذلك من أجل مآرب سياسية، بينما درويش انتسب، مجبورا، لحزب اقل تطرفا مع العرب. فشتان بين هؤلاء وهؤلاء. شتان بين شاعر أعزل، وسياسي إسلاموي يبيع وطنه من أجل سلطة.
أيضا هناك نقطة مهمة في قضية التكفير والحزب الشيوعي الذي تبناه وهو أول مسيرته، وانقلب عليه بعدما خرج من فلسطين لروسيا، وأحبط مما رآه، وشعر بخيبة أمل كبيرة من موت الحلم الشيوعي. ولنعتبر هذه توبة الشاعر، إن كان أخطأ بانتسابه لهذا الحزب، ولا أظنه مخطئا. أليس هناك من مشايخ الدين من تابوا عن حياتهم الجاهلية وفق تعبيرهم، فلم تقبل توبتهم، ولا تقبل توبة شاعر عن حزب دخله ليس مختارا..
أيضا إن قصيدة درويش في تلك الفترة تهاجم السياسة الاسرائيلية وكانت تدعو للمقاومة بالسلاح والكلمات في آن.
ولمن لا يعلم، أقول إن روايات الطيب صالح، ومحمد شكري، وعبدالرحمن منيف تواجدت في اسرائيل بينما صودرت أعمال درويش، وهناك مقال بهذا الصدد: ‘قصائد درويش كادت تفجر حكومة إيهود باراك’ في كتاب جمعه ميشال سعادة بعنوان: ‘محمود درويش: عصي على النسيان’.
للأسف بدلا من أن نتحد نحن العرب في مواجهة العدو نجلس في حلقات مفرغة نكفر بعضنا الآخر..
أما قضية ريتا فهناك تيار قوي يفصل بين اليهود كبشر، واليهود كمؤسسة صهونية تريد الشر بالعرب والمسلمين، وهذا التقسيم الآن واضح لدي الكثير من العرب المستنيرين، وغير العرب.
فيما يخص النصوص الذي كفر من أجلها درويش (حسب المحتسبين في معرض الرياض للكتاب)، علينا القول بإن الأدب بالذات، الأدب يتماس مع الواقع ولا ينقله كما هو..
هو ليس أدب محاسبة النوايا، لأنه تخييل، ولا يقول الحقيقة بل يحاول تمثيلها، ولذلك لا نستطيع تكفير أديب على نصه. ولذلك نفهم غاية نص رولان بارت عن موت المؤلف، الذي هدف من خلاله إلغاء القراءات الأيديولوجية والتكفيرية للأدب، فليس العرب وحدهم من يقرأون النصوص بهذه المقاصل الإلغائية. ولذلك نرى إن أفلاطون قلل من أهمية الشعر، لأنه لا يقول الحقيقة.
أيضا، الأدب ينقل لنا رؤى متعددة حول الأديان والأساطير والرموز الدينية ويحولها من سياقها الحقيقي، إلى سياق آخر يتناسب والحالة التي يطرقها.. فالدلالة في الأدب متحولة.
في حالة درويش وشعراء الحداثة، فهم تحدثوا عن الله في اطار رمزي موازي لفكرة لعدالة، كما تحدثوا عن آلهة متعددة، قد تم عرضها من خلال الفكر الأسطوري والأدب الأغريقي، وتوظيفها للدلالة فى سياقات متعددة وحسب الحالة المطروحة.
أحد الأمثلة في الرابط االذي لديكم:
‘ وصفه لله تعالى بالتعرِّي :
قال في ديوانه ص398 في مقطوعة بعنوان : مزامير : (نرسم القدس : إله يتعرَّى فوق خطٍّ داكن الخضرة’)
فهنا ما المقصود بإله، عن أي إله يتحدثون، في خضم تعدد الآلهة في الأساطير، وتعدد صور الآلهة في الديانات المتواجدة، إضافة إلى الآلهة قبل الإسلام في الجاهلية.. أليس هذا يحتاج منا قراءة عميقة للنص ونعرف ما المقصود؟
ألا يمكن أن يكون المقصود هنا، طاغية أراد يحكم الناس باسم الرب.. أو مدع للأخلاق بدأ بالتعري، وأخذ الشاعر رمز الألوهية لإنسان خدع الناس بأخلاقه.. فهل يستطيع أحد منا الجزم على إن هذا هو الله وفق المنظور الإسلامي في شعر يعانق الكثير من الرموز والأساطير.
وهنا من هو الرب القديم؟:
(وسرحان يرسم شكلاً ويحذفه : طائرات وربّ قديم)
هل هو معلوم لنا ،،هل هناك مايشير إلى إنه الله؟
انظروا المثال التالي:
‘(إنا خُلقنا غلطة، في غفلةٍ من الزمان)
الله أكبر: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) ‘
في هذه القصيدة بالذات، محمود درويش يشير إلى حالة الفلسطينيين، أمام التشويه الصهوني للوجود الفللسطيني بفلسطين، فالفلسطينيون في السرد الإسرائيلي الغربي لم يكونوا موجودين، ولم يعيشوا في فلسطين إلا قبل الاحتلال الاسرائيلي بعشرين عام. هذه الغلطة المقصود بها عدم حضورهم في التاريخ الغربي الذي يوثق حق اليهود وينكر حق الفلسطينيين.
يقول في الموت في الغابة: (نامي فعينُ الله نائمة عنا).
بما إن القصيدة، معنونة بالموت في الغابة، فهنا هو يشير إلى نص أرضي دنيوي، تغيب عنه العدالة، فعين الله نائمة هنا، لأن المقصود هنا بالله العدالة، والله أعلم بنية الشاعر، ولكن استحضر رمز الله للدلالة على العدالة.
طبعا هناك أمثلة مشابهة عن توظيف الآلهة في الشعر العربي، مثل قول الجواهري:
نامي جياعى الشعب نامي، حرستك آلهة الطعام
وبعد، عرضت لكم بعضا من الآراء لتفنيد بعض ما جاء في تكفير درويش، وليس لدي متسعا من الوقت للوقوف على كل ما جاء في نصهم غير الرسمي، في تكفير درويش.
أود أن أختم بأن درويش شاعر عالمي عانق هموم وطنه، والعروبة، والاسلام والإنسانية جمعاء، وهو قرئ وكتب عنه عالميا بأطروحات ماجستير ودكتوراة، وأبحاث أكاديمية.
وهو واحد من أهم مفكري فلسطين الذين جعلوا الغرب يفكر بفلسطين بإطار مخالف عن النظرة المشوهة المعروضة في سرديات اسرائيل عن الفلسطينيين. وإن العصر الذي نعيشه هو عصر التقهقر للوراء في كل شيء، وماهذا الذي يحدث في الوطن العربي إلا صورة من صور التيارات المتخلفة الحاكمة، فمالم يحدث في الماضي حدث اليوم من تكفير وتشويه لصورة الإسلام الحقيقي. ومن الغريب إنني في الامس ارد على يهودية لا تريد اعتناق الاسلام بسبب تقاتل أبنائه، واليوم ادافع عن شاعر مسلم يتم تكفيره من اخوانه المسلمين!

*ناقدة وكاتبة كويتية