خبر : التحول التاريخي في دور "الأونروا" كسلطة ظل موازية للسلطة الفلسطينية ..حسين حجازي

السبت 01 مارس 2014 08:59 ص / بتوقيت القدس +2GMT
التحول التاريخي في دور "الأونروا" كسلطة ظل موازية للسلطة الفلسطينية ..حسين حجازي



ارتبطت الوكالة دوما في ذاكرتي بالمدرسة، مدرسة ذكور الشاطئ الابتدائية "أ" وعلى وجه الخصوص الصف الأول. المدرسة ذات السقوف القرميدية التي بنيت علي شكل حرف الـ "U" اللاتيني، يتوسطها فناء واسع زرعت على أطرافه أنواع من الورود المختلفة، تحيط بها رصوص من الأحجار الصغيرة تضفي عليها شكلا جماليا بديعا. هنا نصطف في طابور الصباح دونما جلبه او ضوضاء، وبعد تفتيش روتيني على أظافر يدينا وشعر رؤوسنا، نذهب اثنين اثنين كل طابور الي صفه . وبعد ساعتين على الأرجح تأتي سيارة الحليب لنأخذ صفا صفا في مكان اعد خصيصا لهذا الغرض، وجبة الحليب الساخنة وحبة زيت السمك. وفي نهاية اليوم الدراسي عند الظهر يذهب البعض منا الأشد فقرا فخورين، لا الي البيت وإنما الى المطعم على شاطئ البحر مزودين ببطاقة خاصة لتناول وجبة دسمة وشهية. كان بعضنا المحروم من هذا الامتياز يحسد البعض الآخر الأكثر فقرا على حظهم السعيد هذا.


كانت الخدمات التعليمية والصحية ولا زالت حتى اليوم هي التي تستأثر بالنصيب الأكبر من بين جميع الخدمات، التي تقدمها الوكالة على مدى مناطق عملياتها الخمس. لقد اسهموا في تحويل أبناء آباء الجيل الأول من اللاجئين من مجرد كونهم مشردين الى جيل من المتعلمين، وكدائرة تغذي نفسها بنفسها وتشبه الى حد ما رمزية شعارها، الذي يمثل دوائر متوازية في احتواء الفراغ او الفضاء، كأن حدودها العالم. فقد سعوا الي توظيف هؤلاء الأبناء فيما بعد في سلك التعليم كمدرسين، بينما كانوا يوظفون عددا من آبائهم في خدمات اخرى كالشؤون الإدارية والصيانة والنظافة، الي جانب صرف الإعاشة في مراكز التموين لإعالة الأُسر الباقية. بعد ان كان الاهتمام الأكبر في بداية اللجوء للإغاثة الطارئة او العاجلة، اي بتوزيع الخيم وبعد ذلك إقامة المساكن فيما يعرف اليوم بالمخيمات.


ولم ينسوا في غضون كل ذلك ان يوثقوا لهذه اللحظة من تاريخ اللاجئين الفلسطينيين، حيث كان الفلسطينيون لا زالوا تحت تأثير الصدمة وظهرهم الي الحائط، ان يوثقوا بالصور التي تساوي عشرة آلاف كلمه كما يقول المثل الصيني، لجميع مناحي حياة هؤلاء اللاجئين في أرشيف الوكالة، الذي قام المفوض العام الحالي لها بنشره على الإنترنت كهديه للفلسطينيين، حوالي نصف مليون صورة مدمجة بالنظام الرقمي، لتوثيق جزء من تاريخهم. الصورة هنا التي تعادل التأكيد على الهوية في تجسيدها الصلة بين الإنسان والمكان.


وبهذا المعني فقد نجحت الوكالة في الحفاظ على قضية اللاجئين في بعدها الإنساني، وهو الهدف الذي قامت من اجل تحقيقه ومنصوص عليه في شعارها او رسالتها، "إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين". وهنا قدمت السكن والتعليم الأساسي والإعدادي وكوبونات الإعاشة والرعاية الصحية. لكن هل كان يدخل في نطاق أهدافها او استراتيجية الأمم المتحدة على حد سواء، العمل على حل هذه القضية من جميع جوانبها وهي صلب القضية الفلسطينية بإعادة هؤلاء اللاجئين الي ديارهم الأصلية ؟ والجواب كلا. وإذن ما هو الجانب او البعد المعياري من القضية؟ اذا كان البعد الإنساني هو الأكثر وضوحا. ولماذا يعتقد بعض الفلسطينيين على نحو ماكر من الشك ان ثمة في أساس كل هذه القصة او الهدف من إنشاء الوكالة، انما ثمة صله سياسية بعيدة المدى تهدف الى نوع من تخدير الفلسطينيين، فإذا كنتم بالأصل مجرد جموع من الفقراء المعدمين في قراكم الفلسطينية الأصلية قبل الهجرة، فهاكم ما تظهرون عليه من حداثة حينما يطل الأولاد من جيل النكبة في الصورة يرتدون الزي المدرسي، وهم يلوحون بابتساماتهم الضاحكة أمام عدسة الكاميرا.


وربما يذهب البعض الآخر من أنصار نظرية المؤامرة الى استنباط قاسم مشترك بين إنشاء الوكالة بقرار أممي، وإنشاء السلطة الفلسطينية غداة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، باتفاق إسرائيلي فلسطيني ومباركة دولية، بدلالة الدور هنا والهدف والوظيفة مع فارق في الحالة الثانية، وهو ان هدف الاحتواء والتسكين او إدامة الوهم والتخدير، لا يقتصر او يستهدف لاجئي 1948 في الضفة وغزة وإنما مجموع الفلسطينيين، اذا كانت الكلمة السحرية في كلا الحالتين هي "الراتب" في عهد السلطة الذي يعادل او يوازي بطاقة التموين والإعاشة. وفي حقيقة ان الجوهر الوظيفي الاستثماري المشترك هو الدور الاقتصادي الإغاثي في بداية عمل الوكالة، قبل ان يتكامل الدوران في إطار مشترك قوامه التنمية الاقتصادية، وباعتبار ان المقاربة الوحيدة التي تراها إسرائيل كحل نهائي للقضية الفلسطينية، كما قضية اللاجئين هي مقاربة اقتصادية بالأساس او هكذا على الأقل، تحاول ان تكيف جميع الحلول السياسية ضمن هذا الإطار.


وقد يكون في هذا التصور جزء من الحقيقة لكن الحقيقة ان عرفات حينما التقيت به لأول مرة خريف العام 1994، بعد شهور قليلة من انشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، أسر لي ساخراً في مقره القديم بالمنتدى، "ان الإسرائيليين يتصورون بأنني سأكون هنا مجرد رئيس بلدية". واليوم حين يسرد أمامي السيد عدنان أبو حسنة مفوض الإعلام في الوكالة بعض المعطيات والأرقام والحقائق، فليس ثمة شكاً بأنه ما كان للفلسطينيين الخارجين من صدمة النكبة العام 1948، ان يستوعبوا ما حدث لهم ويقفوا على أقدامهم من جديد، من دون هذا الدور الذي قامت به الوكالة .

 حيث كان العالم العربي آنذاك يغط في سباته، وكذا هي الحقيقة الأخرى اليوم انه ما كان للفلسطينيين ان ينتزعوا اعتراف العالم بشرعية هدفهم الاستراتيجي المتمثل بإقامة دولتهم، دون المرور بهذه الحلقة الوسيطة التي هي السلطة. وان القاسم المشترك هنا في الدور المزدوج والمتكامل بين الوكالة والسلطة بين عرفات وبيتر هانسن ( مفوض الوكالة حينذاك)، انما هو التدعيم المتبادل في تعزيز صمود الفلسطينيين والحفاظ على هذا الصمود، والذي يعد العنصر والعامل الاول في نظرية الأمن القومي الفلسطيني، أي قدرة الفلسطينيين وتمكنهم من الصمود والاحتمال .


وهكذا بعض الأرقام يمكنها التحدث عن الموضوع، ان سكان غزة من اللاجئين لا يمثلون سوى 20% من مجموع اللاجئين المسجلين في مناطق عمل عمليات الوكالة الخمس، ولكنهم بالنظر الى خصوصيتهم الاجتماعية والاقتصادية يحصلون على ما نسبته 40% من ميزانية الوكالة، البالغة نحو 650 مليون دولار، يضاف اليها نحو نصف هذا المبلغ أي 300 مليون دولار ميزانية طارئة. واذا عرفنا انه في غضون العام الماضي فقط تمكنت الوكالة من إنشاء نحو 30 مدرسة جديدة في غزة، وان الوكالة قامت بعيد الحرب الأولى على غزة العام 2008 و2009 بإصلاح وترميم ما مجموعه 55 الف منزل، وفي الحرب الأخيرة العام 2012 نحو ثمانية آلاف وخمسمائة بيت. وحتى في المنخفض الجوي الأخير الذي ضرب غزة قدمت إغاثة طارئة ومساعدات لحوالي 12 ألف أسرة. 

فإننا نتحدث عن ثقل دور حاسم ومؤثر، اقله في مساعدة الفلسطينيين ولا سيما الغزيين منهم في القدرة على مواصلة الصمود والبقاء، في ظل ما يعانونه من الحصار. وهو دور وازن حتى فيما يشتمل عليه من التمدد في العمران لتخفيف معاناة السكن، كما يشهد على ذلك اقامة الوحدات السكنية في خان يوس ورفح ضمن منح المشاريع التي قدمتها السعودية والإمارات وهولندا.


هل هو النزاع او الخلاف على الصورة ما يفك غموض هذا اللغز التباس الدور؟ وهو خلاف إعلامي في مظهره على السطح ولكنه سياسي في العمق، بين الصورة التي يظهرون عليها وهم في موسم الفرح على شاطئ البحر في المعسكرات الصيفية لما يقرب من 250 ألف طفل، كما لو ان ذلك يتم بصورة مقصودة وماكرة لاجتذاب الخزان البشري من الأطفال الفلسطينيين الغزيين بعيدا عن دروس تحفيظ القرآن في مساجد "حماس"، التي هي معسكرات إعداد وتدريب فتية جنود وقادة كتائب القسام اللاحقين.

 ام ان النقلة التاريخية التي أحدثها عرفات مع بطرس غالي (امين عام الأمم المتحدة حينذاك) وبيتر هانسن العام 1996، بنقل المقر الرئيسي للوكالة الى غزة واستقرار هذا التموضع، أنشأ واقعاً جديداً في علاقة ونظرة الغزيين للوكالة على قياس نظرتهم الى السلطة الفلسطينية، يشكون وينظمون الاحتجاجات أمام أبوابها، باعتبارها أيضاً السلطة الموازية خاصتهم المطلوب منها دوما الإيفاء بتوقعاتهم، اذا ما تقاعست عن تقديم المساعدات لهم. 

الاحتجاجات التي تبلغ ذروتها المتواترة في كل مرة مع تواتر درجة أحكام الحصار الخارجي عليهم كما هو الحال اليوم، بحيث يتوزع غضبهم على السلطتين معاً. وحيث يجدون انفسهم في هذا الوضع المسدود وكأنه لا مغيث لهم.