خبر : باندونغ! ...محمد يوسف الوحيدي

الخميس 10 أكتوبر 2013 08:03 م / بتوقيت القدس +2GMT
باندونغ! ...محمد يوسف الوحيدي



طويلة هي المسافة و مملة الرحلة، خاصة إذا كنت في الدرجة الاقتصادية، و لمدة تراوح الأربعة عشر ساعة !! الطريق إلى جاكرتا.... فباندونغ في أندونيسيا طيرانا من أبو ظبي ..

عندما كنت طالبا طريدا في فرنسا تعلمت عادة كنت أسخر منها.. التدخين، ولكن الوحدة و الغي و قليل من الفساد و الفرح بالشباب و العافية و تقليد الغير قادني رويدا رويدا إلى مستنقع النكوتين الذي أصبح ملازما لي، دفعت ثمنا باهظا لهذه الغلطة التاريخية أثناء الرحلة الطويلة و لا رحمة لدى طاقم الطائرة، فالتدخين ممنوع ممنوع يا ولدي... كنت متشوقا لأرى هذا البلد المسلم العريق ، إندونيسيا ، و جاكارتا ، و باندونغ الشهيرة ، و التي إنطلقت منها حركة عدم الإنحياز .. نظرت حولي، لأرى علية القوم تتوافد إلى قاعة المؤتمر، و على وجوههم ترتسم علامات الجد و الهيبة، فقلت في نفسي أستر يا رب، ربما ستعلن الحرب هذه المرة من جاكارتا على أعداء الأمة.. تبسمت في نفسي، ولكني سرعان ما لملمت نفسي، و تنحنحت بأدب عندما سقطت عيناي على صورة ضخمة للزعيم جمال عبد الناصر.. دخلت إلى قاعة المؤتمر بأدب وهدوء شديد، لأجلس في المكان المخصص لوفد فلسطين، و صورة عبد الناصر لا تفارق خيالي، بل إني كنت أسمع صوت عبد الحليم حافظ ينشد أحلف بسماها و بترابها، و أبدا بلدنا للنهار.. كان المؤتمر على وشك البدء ، و ما زالت الصحافة و الكاميرات و الميكروفونات تحرث و تحصد ما يمكن لها من صور و ملاحظات و لقاءات سريعة .. إلى أن شدني وجه أحد الرجال من أحد الوفود العربية المشاركة ، كانت تبدو على وجهه الصرامة ، و الوقار .. ولكني لاحظت وكأن الرجل على وشك أن ينفجر وربما يحلف يمين طلاق أنه لن يبرح المكان إلا بإعادة الإعتبار للمستضعفين في الأرض ، و إعادة القوة و المنعة لدول آسيا و أفريقيا في وجه القطب الواحد الحاكم و المتأله ( أمريكا ) ، كان ينظر بعينين متقدتين ، و ينفث ، و يتململ ، و يبدو أن أحد مرافقيه لاحظ ما لاحظت ، فتوجه إليه بكل أدب و إنحنى مبتسما له ، كان الرجل ووفده على بعد معقول مني ، يمكنني من أن استمع، بغير قصد و الله ، لوشوشاته في أذن المرافق المؤدب ، فسمعت صاحبنا عاقد الحاجبين، المنشنق بربطة عنق فرنسية، من الواضح أن ثمنها يساوي مرتبي في سنة ، بل و مضاف إليه كل بدلات السفر و تذاكر الطيران ، و فواتير الهاتف ، سمعته ( بغير قصد ) يهمس في أذن مرافقه بكل حزم، من تلك الفتاة ؟ فأجابه مرافقه " ذي القرنين": - إنها مراسلة وكالة كذا يا سيدي.. و يا لهول ولاء المرافق و إخلاصه، بدأ التحرك فورا، ليعقد اللقاء، ويقدم كارت التعارف و يحاول أن يشرح أهداف المؤتمر و المؤتمرين و أبعاد القضية لوكالة الأنباء العالمية..

تبخر صوت عبد الحليم، و تلاشت صورة ناصر من خيالي،رويدا رويدا ، بعد أن خرج الصحفيون من القاعة ، و بدأت الكلمات ، و الخطب .. و بدأت أرى الملل يسيطر على ملامح وجوه بعض المؤتمرين ،بينما أثر الهواء البارد على بعض آخر فدغدغ أحاسيسهم ، و سلبهم القدرة على التركيز ، فكنت أرى بعضهم يجاهد محاولا الإبقاء على جفونه مفتوحه ، ثم ما يلبث أن يفقد السيطرة ، فتحول عيناه و يغمض و تأخذه سنة قصيرة من النوم اللذيذ ، إلى أن أتي الموعد ، و القرار الذي ينتظره أغلب الموجودين – على ما يبدو - فلما دعا داع المؤتمر إلى وليمة الغداء ، انفرجت الأسارير ، ودبت الروح في النعسانين و ضخ الأدرينالين في عروق المجاهدين فنفروا خفافا و ثقالا .. أمامهم هدف واحد لا يحيدون عنه ، الأكل ..

تسكعت في أروقة الفندق الضخم المحتضن للمؤتمر، على أيقاع صوت الملاعق و الغمغمات ، و الأكل .. التي أخذت تتباعد كلما بعدت عنها ، لأستسلم لصوت موسيقى الفندق الهادئة .. و أنا أفكر كيف كان المكان في غير هذا الزمان .. مؤتمر باندونغ ،ففي 18 أبريل 1955 (26 شعبان 1374 هـ) - عقد "مؤتمر باندونج" بإندونيسيا، والذي حضرته وفود 29 دولة أفريقية وآسيوية، واستمر لمدة ستة أيام، وكان النواةَ الأولى لنشأة حركة عدم الانحياز. وشارك فيه الزعيم جمال عبد الناصر بالإضافة إلى رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو وجوزيف تيتو رئيس يوغسلافيا. تبنى المؤتمر مجموعة من القرارات لصالح القضايا العربية وضد الاستعمار و الإستقطاب و الهيمنة .. هنا في أيام ناصر.. كان هذا المكان محط أنظار العالم الذي ينتظر أن يعرف نتيجة الاجتماعات.. الكرامة و الإباء و الشموخ و التحدي ، كلها معاني كان ينضح بها هذا المكان ..

هنا ، كان يقف الزعيم جمال عبد الناصر ، و حوله عظماء العالم .. يشحذون الهمم ، و يتخذون القرارات الصعبة ، الضامنة لإستقلال القرار ، و عدم الرضوخ لإملاءات القوة العسكرية أو الوقوع في خداع و أوهام الدعم الإقتصادي .. هنا ، كان العرب يقودون العالم .. ممثلين بناصر .. هنا كان للمجد صولة و جولة .. وللعرب مكان في المقدمة ..

لاحظت أن من يمر بي و أنا غارق في بحر التأمل و التفكير بناصر و أيام مجد العرب .. ينظرون إلي و يبتسمون ، فتنبهت أنني كنت أتبسم دون شعور .. بعد أن أفقت من غيبوبة الحنين إلى الماضي ..نظرت ورائي لأرى كيف تبدل الحال .. و تبخرت صور العظمة و المجد و صوت وصورة ناصر من راسي مرة ثانية .. لأرى واقع هو أقرب إلى خلطة الفسيخ باللبن والتمر الهندي.. ضحكت بشكل تلقائي عفوي ووجدتني أضرب كفا بكف و أنا أشاهد عملية إفتراس الطعام عن بعد من قبل الوفود غير المنحازة إلى طبق معين أو نوع معين من اللحوم ، الحقيقة يأكلون من كل طبق و يتذوقون الحلو على المالح دون تمييز و بمنتهى الحيادية و عدم الإنحياز.. أخذت أتمتم بيني و بين نفسي إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون.. ضع راسك بين الرؤوس وقل يا قاطع الرؤوس، القناعة بالقسمة و النصيب، " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.." صدق الله العظيم.

جرعة من الإحباط و الاستسلام ..أطفأت سيجارتي الرابعة، وقررت أن أقنع نفسي بإتباع الدبلوماسية، البراغماتية، وفن الممكن .. في المركز الصحفي رايت بعض الصحفيات المتشوقات لمعرفة قضية بلادنا.. فقررت عدم الإنحياز !!