خبر : تفاقية أوسلو بعد عشرين عاماً حلقة في صراع مفتوح على محور الزمن ...بقلم: حسين حجازي

السبت 14 سبتمبر 2013 12:32 م / بتوقيت القدس +2GMT



تسمرنا أمام شاشة الـ CNN الأميركية عصر ذلك اليوم الاثنين، نرقب بذهول انتظار بدء حفل التوقيع التاريخي في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، منتظرين بفارغ الصبر ظهور الأشخاص الفعليين المشاركين في هذه التمثلية التاريخية المهيبة، والذين تأخروا لبعض الوقت في مفاوضات اللحظة الأخيرة، لوضع آخر اللمسات على ديباجة نص الاتفاق. وها هي لحظات التوتر والقلق تنتهي ويظهر الرئيس الأميركي بيل كلينتون والى جانبيه ياسر عرفات وإسحاق رابين ثم شمعون بيريس ومحمود عباس ووارن كريستوفر.

وفي نفس الحديقة وعلى نفس الطاولة الشهيرة التي شهدت التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد في العام 1979، بين مصر وإسرائيل، تم التوقيع على اتفاقية أوسلو يوم الاثنين 13 أيلول العام 1993. الحدث الذي اعتبر مجازياً ورمزياً كواحد من اعظم الأحداث في القرن العشرين.
وقد كان بالفعل اختراقاً عظيماً في جدار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونقطة تحول كبرى، اتسمت بالآمال بقرب وضع نهاية لهذا الصراع بتحقيق السلام بين الشعبين وإنهاء الاحتلال، وإزالة المظلومية التاريخية عن كاهل الفلسطينيين. حين بدا للوهلة الأولى ان المستحيل يمكن قهره بالإرادة وتحويله الى ممكن، لم لا ؟ وقد بدا ان العقل والاعتدال والحكمة، إلهة الحكمة منيرفا هي التي انتصرت على إلهة الشر هيرا او هكذا بدا لنا المشهد كتحول باعث على الإشراق والأمل.
لكن في غضون الرحلة الممتدة خلال العشرين عاماً منذ ذلك المشهد اليوم الأطول في التاريخ، المفعم بالتوقعات تعرفون بقية القصة، والتي يمكن اختصارها على النحو التالي : لقد قتل الرجلان اللذان صنعا هذا السلام إسحاق رابين وياسر عرفات، ولزم انفجار انتفاضة ثانية اشد قسوة وسفكا للدماء، لكيما يتم الثأر والانتقام من هذه الجرأة التي اظهرها العقل والحكمة على الانتصار، ولكيما نبدأ هذا السير الطويل على الألواح الزجاجية المهشمة والمكسورة.
وبعد رابين يأتي نتنياهو وبعد نتنياهو يأتي ايهود باراك وبعد باراك يأتي شارون وبعد شارون القتل لعرفات، وبعد القتل لعرفات القتل لما تبقى من وعود أوسلو، وبعد القتل لأوسلو الى نتنياهو ثانية، وبعد نتنياهو الثاني لا يجرؤ اي عاقل أو حكيم او حتى كاهن على التنبؤ بما يمكن ان يكون او يحدث.
فعند نهاية هذه الرحلة، المسافة الزمنية الشاقة إنما يصح القول بأن هذه الاتفاقية كأنها ولدت ميتة، وما حدث انها طوال هذه السنين التي تعد كل سنة منها بألف سنة مما تعدون، انما كانت تترنح وترقص، تؤدي رقصة موتها على مسرح التاريخ، على ايقاع من وزن البحر الطويل كتلك الأغنيات الأسطورية القديمة التي كان يرددها بحارة وغواص البحث عن اللؤلؤ في مملكة دلمون، وقد انهكهم التعب يفرجون عن انفسهم بهذه الترانيم الدينية القديمة في الليل حتى طلوع الفجر.
هل خدعنا اذن؟ الخديعة الكبرى وأسقطنا هكذا عبثا عشرين عاما. "عبثا تحاول يا ابي ملكا ومملكة" كما قال الشاعر الذي رحل هو ايضا في غضون هذه الرحلة الطويلة، كما لو انها نبوءة مبكرة قاتمة على لسان أنبياء العهد القديم. او تراها الاتفاقات التي يعقدها الأعداء تحت ضغوط مؤقتة وعابرة، ولكن سرعان ما يتنكرون لها بعد زوال هذه الظروف التي أملت عليهم توقيعها، وحيث الضمانة لأي اتفاقيات تبقيها على قيد الحياة او تحميها ليس سوى منطق القوة نفسه، كما توازن هذه القوة على حد سواء.
وهكذا علينا ان نعيد قراءة الدوافع التي أملت التوصل اليها، لكي نفهم النتيجة التي انتهت اليها، وقد كان واضحا حتى لشخص مثل رابين ان إسرائيل، انما أرادت بالأساس احتواء الوطنية الفلسطينية وكسر نزعتها الجذرية كسيرورة تاريخية هادمة للصهيونية، باعتبارها نقيضها، فيما اعتقد عرفات انه يمكن تحويلها الى نوع من اتفاقية (حديبية) اخرى، التي تمهد الطريق الى الفتح العظيم.
اذا كان الانتقال او التحول من وضع الجثة الهامدة لمنظمة التحرير الفلسطينية في المنفى، الى الوطن الجغرافيا هي المعادل التاريخي والعملاني لانتصار (الفكرة)، اذا كان القتال من داخل فلسطين وعلى ارضها هو افضل ألف مرة وأجدى من القتال على التخوم من الخارج.
وهكذا كانت إسرائيل ترغب او تعمل على الإتيان بالوطنية الفلسطينية من الخارج لوضع ممثليها كما نواتها الصلبة تحت إبطها، في هذا التموضع الجديد لإبقائها تحت عينها ومراقبتها وحتى بطشها، بهدف تفريغها من محتواها الثوري بالنهاية. وكان عرفات الذي وصفه ذات مرة الرئيس الأميركي رونالد ريغان بالثور النطاح، يراهن على انه سيكون هو الدب الذي استطاع الدخول خلسة الى الكرم، وان اتفاقية أوسلو هي ضربته السياسية اللامعة التي سوف تغير السياق التاريخي للصراع بأكمله، اذا كان رهانه الجوهري هو تحويل هذه السلطة التي أرادها الإسرائيليون ان تكون مجرد حكم بلدي الى دولة بحكم الواقع والضرورة.
تحت تأثير هذه القراءة المتفائلة كتبت شخصيا سلسلة من المقالات في الدفاع عن الاتفاقية، ومبررات القبول بها. وللحقيقة اسجل انه هنا في حديث جرى بيني وبين المفكر الفلسطيني الكبير والراحل إدوارد سعيد، الذي عارض الاتفاقية منذ البداية وقام بسجال شرس وقوي ضدها، لامني إدوارد سعيد على ما اعتبره حماسا خاطئا في تبريرها والدفاع عنها، وكان خلافنا انني وثقت بذكاء وحنكة عرفات، وكان هو اكثر تشككا في نوايا الأميركيين والإسرائيليين ورأى ان هدفهم الخفي إجهاض الوطنية الفلسطينية، ولطالما اخذ في سجاله الطويل والذي لم يتوقف حتى مماته على القيادة الفلسطينية كما ربما على النخبة السياسية والثقافية الفلسطينية، عدم فهمهم العميق لأميركا.
واليوم لا بد من الاعتراف ان شكوك ادوارد كانت في محلها، ولكن اليوم ايضا لا يمكن الانتقاص من الذكاء القيادي لعرفات حتى ولو ان هدف عرفات الحقيقي من الاتفاق لم يتحقق، بل ودفع حياته ثمنا لهذه المناورة اللعبة الخطرة، ذلك انه يا صديقي سعيد سوف يظل دوما مقياس الموهبة السياسية للأشخاص والقادة في التاريخ، هو ما لاحظه ماكس فيبر، في القدرة ابدا على امتلاك الاستعداد والشجاعة لتحدي المستحيل وقهر هذا المستحيل على حد سواء، حتى حينما يكون كل شيء يعمل ضدك ويكون الجواب "ومع ذلك".
ولقد كانت أوسلو في التحليل الأخير هي جملة عرفات في الإقدام على المخاطرة ( بالرغم من ذلك) كمن يصارع المستحيل ومع ذلك او بالرغم من ذلك. اذ وحدهم الرجال الحقيقيون من يقومون باللعب والمخاطرة، إذا كان ما يجب فعله في اللحظة التي يجب الإقدام فيها على الفعل هو الشيء الصحيح، أما ما هو المحتمل فهو يتعلق بالجزء الإلهي اي بما هو يحتمل الخطأ والصواب معا، النجاح والفشل. لأن ما يجب عمله في الظروف المباشرة في تحليل الوضع المباشر والملموس كما يقول ماركس، انما هو العمل او الفعل الذي يتعلق بكونه عقلانيا اي المخاطرة بالدخول في التجربة، ومن بعد تقييم الخسارة، بدلا من دعوة المسيح عدم الدخول في التجربة. ولكن بين المسيح وقيصر وبين المسيح وعرفات، ان الأول كان نبيا يوحى له اما الثاني فقد كان قائدا من البشر يكافح لأجل الخلاص لشعبه.
إن "أوسلو" إذن كانت حلقة في الصراع، وهكذا من منظار اليوم كما الأمس، يمكن ان ننظر إليها باعتبارها منعطفا كان يجب واقعيا ان نمر من منحناه التاريخي. والاستراتيجية ليست سوى الصراع على هذه المنحنيات التعريف المحبب لنابليون، لقد كانت منحنى في الطريق الى فلسطين وحيث فلسطين لا زالت هي الهدف. ولكن السؤال اليوم بأي وسيلة؟
ولقد أجاب عرفات في أيامه الأخيرة وكما لو انها توصيته لشعبه وللتاريخ بأن هذا الصراع هو على محور الزمن، وان حله الوحيد هو على محور هذا الزمن. (نحن وإياهم والزمن طويل). وحده الرهان على الزمن ما يمكنه ان يوفر حلا لصراع يطرح معضلة إشكالية تتسم بالحدة والجذرية، والأبعاد الأيديولوجية كما هي معضلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية، هوية الأرض والمكان بين إسرائيل التوراتية اليهودية وبين فلسطين التاريخية. وانه على هذا المحور إنما قدر لاتفاقية أوسلو ان تفشل كما المفاوضات اللاحقة.
والراهن انه ليس سوى شعور مشترك، شعور تاريخي بالمأزق المتبادل، لا يمكن تسويه مبدعة وخلاقة وتاريخية ان تنضج او ترى النور. ولكن الذي حدث او مأثرة أوسلو، ربما كانت في إنهائها لوهم استراتيجية تحرير فلسطين من الخارج، وفي تقريبها الواقعي من الظروف الموضوعية والذاتية، لإمكانية التوصل الى هذا الحل من الداخل، هذا الحل الذي يقتضي اعترافا متبادلا بانه لا يمكن نفي الآخر او إلغاؤه. ولكن هذا شعور بالمأزق المتبادل لم ينضج بعد، طالما ان إسرائيل تعتقد انها ما تزال في ذروة تعاظم قوتها، والفلسطينيين لا يشعرون في قرارة أعماقهم أنهم هزموا، او اسقط في يدهم.