خبر : في فن الاختلاف ... د.عاطف أبو سيف

الإثنين 02 سبتمبر 2013 10:00 ص / بتوقيت القدس +2GMT
في فن الاختلاف ... د.عاطف أبو سيف



لم يكن اتفاق البشر يوماً على رأي غاية ترجى، لأن الآفة المرعبة التي ستنتشر في جسد المجتمع لو اتفق الناس ستقود اكثر إلى مصائبهم من عودتها عليهم بالخير. ليس لأن في الاتفاق والتوافق خيراً بل لأن في وقوف الناس خلف وجهة نظر واحدة حرماناً للمجتمع وللناس من فوائد وجهات النظر الأخرى. من هنا كان الاجتهاد في السياسة وفي الدين كما في القضايا المجتمعية على مختلف أنواعها عادة صحية لأنها تجعل البحث مفتوحاً عن أفضل الآراء واكثرها قرباً من المصلحة العامة. ولأن لا احد مهماً علا شأنه يمكن له أن يمتلك الحقيقة، ولأن الحقيقة الوحيدة المسلم بها أن الحقيقة لا يملكها أحد، فإن البحث عنها يعني أن نسلك طرقاً مختلفة في سبيل الوصول إليها. ولو قدر لشخص ما أو مجموعة من الأشخاص أن يستحوذوا على الحقيقة المطلقة لتحولت حياة الناس إلى جحيم، إذ عليهم أن يتحولوا إلى عبيد ورعايا مكبلين بالجهل. إن عدم تحقق الحقيقة والمعلومة المطلقة هو أساس اتفاق الناس على ذواتهم وفردانيتهم، بحيث لن يكون من المتعذر التعايش بل إن من المحبب أيضاً، إضافة لذلك، أن نختلف وأن نتناقش ونتحاور وتتصارع أفكارنا وتتجادل كي تختمر في عقولنا. لم يخلق الإنسان بلا عقل، بل كان عقله هو السمة الوحيدة التي تميزه عن باقي موجودات هذا الكوكب. وإذا ما قدر لهذا العقل أن يتعطل برغبة ذاتية أو بقوة مفروضة، فإن الإنسان وقتها قد يفقد سبب وجوده، ولا يعود حقاً يستحق الحياة على هذه الأرض التي عليها الكثير مما يستحق الحياة.
تبدو هذه الملاحظات طرفة غير مرغوبة حين النظر إلى السياق الفلسطيني الآني المليء بالاختلاف دون أن يكون هذا الاختلاف فناً مرغوباً. فالاختلاف عندنا عادة ولكنها عادة تنغص حياتنا وتحولها إلى اقتتال وشتم وردح وسباب. لا يوجد نار تحت الرماد، ولا يوجد منفعة من اختلافنا. هكذا هو الحال عندنا. عند أقل تفصيل تندلع حروب كلامية تصل حد الخجل من سماعها، وتنطلق مدافع التخوين والتكفير والشتائم والمسيرات المؤيدة وتلك المعارضة في جعجعة بلا طحن وغيوم بلا مطر. في مرات قد يفيد الكتّاب تجميل واقعهم، أو أن من عاداتهم البحث عن الأجمل في هذا الواقع. لكن التأمل وحده لا يطور الواقع كما أن تجميل هذا الواقع لا يجعله جميلاً. ثمة حاجة للوقوف أمام المرآة ومواجهة الحقيقة، الصراخ في الوجه، و"البحلقة" في العيوب، لعلنا نرى الحقيقة كما هي وليس كما يريد كل منا أن يراها. إن أسوأ لحظات الشعوب هي تلك اللحظات التي يصبح البحث فيها عن المستقبل مقصوراً بوجهة نظر واحدة، ويغيب التفاعل والاختلاف الذي ينتج عنه كيمياء الحياة. نحن فقدنا هذه الكيمياء ووصلنا طريقاً مسدوداً، لكننا عاجزون عن إدراك ذلك.
الشواهد كثيرة والمفارقات مؤلمة، ويكفي المرء فقط أن ينظر حوله ليرى كيف يصبح الخلاف عندنا عادة سيئة وليس ظاهرة صحية في البحث عن المستقبل الأفضل. قبل أيام ثار خلاف ونقاش طويل بعد المسيرة التي قام بها بعض النشطاء احتجاجاً على العودة للمفاوضات. لم يكن الخلاف بسبب وجود المظاهرات بل على ما جرى خلال التظاهر من سب وشتم وعبارات بذيئة وغير أخلاقية بحق رجال الشرطة الذين التزموا الصمت وعكسوا صورة حضارية للشرطي الملتزم بواجباته والذي يعرف أن المواطن فوق كل شيء. بالطبع لم يكن ما صدر عن المشاركين في المسيرة بالشيء الذي يحمد أو يذكر بالخير فهو مسيء لعادات وثقافة شعبنا كما أنه شيء لا يعبر عن جوهر حقيقي في فهم الاختلاف ووجهة النظر. أولاً ليس لأنه استخدم عبارات نابية سواء بحق الذات الإلهية أو بحق الأخلاق العامة، ولكن إلى جانب ذلك لأنه انطلق من قاعدة أن ثمة وجهة نظر واحدة من يخالفها خائن. هؤلاء أرادوا أن يهينوا الشرطي ورجل المؤسسة لأنهم يعتقدون واهمين بأنهم وحدهم يملكون الحقيقة. نفس الشيء أيضاً تراه في المسيرات التي تجوب غزة ضد المفاوضات وضد وضد وضد وضد. مرة أخرى واهم من يعتقد أنه يملك الحقيقة وواهم من يخون الناس ويبرئ نفسه.
في المقابل أيضاً لم يكن رد المعلقين على ما بدر من المتظاهرين في رام الله يعكس فهماً لحق الاختلاف، بل إنه عكس أيضاً فهماً أقل سوءاً، وركض في نفس اتجاه السباق. فتوصيف الفتيات المشاركات بعبارات نابية وغير أخلاقية، والطعن فيهن وفي المشاركين ليس أيضاً أقل خطورة مما تم في المظاهرة. أيضاً الخطورة ليست في الكلمات بل في منطق الهجوم المضاد لأنه ينطلق من فرضيتين تقول الأولى إن ثمة من يمتلك "قربة" الأخلاق ووحده من يقرر ما هو المقبول وما هو غير المقبول فيها، والثانية لأنه يستخدم ما حدث لتقويض حق الناس في التعبير عن وجهة نظرهم وفي التظاهر كل دقيقة. هذا حق لا يمكن المساس به أو الانتقاص منه، بل يجب تشجيعه. المطلوب فقط أن يواصل رجال الشرطة كونهم الحريصين على حقوق المواطن وليسوا منتهكيها. لأن ليس من حق أحد أن يكون وصياً على رأي الأفراد ولا مستقبل تعبيرهم عن هذا الرأي. كما ان الشعوب لا تصل إلى طرق التعبير عن رأيها وترجمة هذا التعبير إلا عبر التعلم من التجارب. أيضاً بحيث لا تستغل هذه التجارب في تقويض الحقوق.
لم يكن هذا إلا غيضاً من فيض أما بقية الشواهد قد تكون اكثر إيلاماً. فحكاية الانقسام الفلسطيني تصلح نموذجاً تدرس عيوبه في ذلك. كما عجزنا عن فهم الفرق بين الحاجة للاختلاف وضرورة التفاهم على الأقل في القضايا الاستراتيجية والحيوية مثل الأزمة المصرية والموقف بشأن المشروع الوطني والجمع بين النضال بكل أشكاله دون الخروج عن المصلحة. كما أيضاً الجمع بين المصلحة العامة والمصلحة الحزبية. أشياء كثيرة تصلح لأن تكون "فلاشات" في طريق معتم.