خبر : الديمقراطية في الشرق الأوسط ..بقلم: العميد عبد الفتاح سعيد السيسي

السبت 17 أغسطس 2013 07:49 م / بتوقيت القدس +2GMT



مشروع بحثي استراتيجي من كلية الحرب الأميركية
دراسة اعدها الفريق السيسي خلال دراسة له في واشنطن..

الكولونيل ستيفين جيه. جيراس
مستشار المشروع
يعد الشرق الأوسط واحدة من المناطق الحيوية المهمة على مستوى العالم. وقد كانت مهدًا لديانات كبرى، بما فيها الإسلام والمسيحية واليهودية. ويتجلى تأثير الطبيعة الدينية للبيئة في ثقافة شعوب الشرق الأوسط، وتعد هذه الطبيعة واحدة من أهم العوامل المؤثرة في الحياة السياسية بالمنطقة. ونظرًا لطبيعة الثقافة شرق الأوسطية، فإنه يتعين الأخذ في الاعتبار الطبيعة المتدينة لشعوب المنطقة عند إجراء مفاوضات دبلوماسية ووضع سياسات. من المنظور الاقتصادي، ينعم الشرق الأوسط بمخزونات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي توفر الكثير من احتياجات العالم من الطاقة. ولذلك، تبقي القوى العالمية الكبرى أعينها باهتمام على المنطقة وتحاول التاثير والهيمنة عليها بحيث تتمكن من الحفاظ على متطلبات الطاقة اللازمة لضمان بقاءها الاقتصادي. كان من شأن هذا الوضع خلق ضغوط مستمرة على الشرق الأوسط لإرضاء أجندات دول متعددة قد لا تتوافق مع احتياجات أو رغبات شعوب المنطقة. إضافة لذلك، من المنظورين الجغرافي والعالمي، يتميز الشرق الأوسط بكونه منطقة استراتيجية لوجود قناة السويس ومضيقي هرمز وباب المندب ــ وجميعها طرق شحن تجارية بالغة الأهمية وحيوية بالنسبة لأي اعتبارات عسكرية. وتخلق الطبيعة الاستراتيجية للمنطقة بجانب الطبيعة المتدينة لشعوبها، بيئة تعوق بناء ديمقراطية بمختلف ارجاء المنطقة في المستقبل القريب.
ويزيد الصراع العربي ــ الإسرائيلي من تعقيد تطور الديمقراطية. ولا يقتصر هذا الصراع على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وإنما هو صراع يؤثر على جميع العرب بمنطقة الشرق الأوسط. ويؤدي هذا الأمر بدوره لإبطاء ظهور الديمقراطية في الشرق الأوسط وربما يبرر ظهور نمطًا من الديمقراطية يعكس بصدق مصالح الشرق الأوسط، قد يحمل تشابهًا ضئيلاً بالديمقراطية الغربية.
رغم أن الشرق الأوسط بدأ بالفعل الانتقال نحو إصلاحات ديمقراطية في أسلوب الحكم، ما تزال هناك بقايا من الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية. ولدى إضافة ذلك للتوترات القائمة بالفعل داخل الشرق الأوسط جراء الصراعات المندلعة بالعراق وأفغانستان والمحيطة بإسرائيل، نجد أن الظروف تزداد تعقيدًا أمام تطور الديمقراطية. وينبغي تسوية الصراع والتوترات القائمة أولاً كي تحظى الديمقراطية بالقبول الكامل من شعوب المنطقة.
ظاهريًا، يدعي الكثير من الحكام المستبدين تأييدهم القيم الديمقراطية وصور الحكم المرتبطة بها، إلا أنهم يخشون من التنازل عن السيطرة على البلاد إلى جموع الناخبين داخل أنظمتهم. يكمن وراء هذا الموقف بعض الأسباب الوجيهة، أولها أن الكثير من الدول غير منظمة على نحو يدعم نمط الحكم الديمقراطي. والأهم من ذلك، هناك مخاوف أمنية داخلية وخارجية أمام دول المنطقة. والملاحظ أن الكثير من قوات الشرطة والقوات المسلحة بدول المنطقة موالية للحزب الحاكم. وحال ظهور ديمقراطية بجماهير مختلفة من الناخبين، ليس هناك ما يضمن تحالف الشرطة والقوات المسلحة مع الأحزاب الحاكمة الناشئة.
من ناحيتها، يتعين على القوات الأمنية بدول المنطقة تنمية ثقافة تقوم على الالتزام بالدولة وليس الحزب الحاكم. علاوة على ذلك، ينبغي إعداد شعوب المنطقة للاضطلاع بدور تشاركي في نمط حكم ديمقراطي. ويتطلب ذلك تثقيف الشعوب وتنمية عمليات ديمقراطية تمكن الديمقراطية من التحرك في الاتجاه الصحيح.
من ناحيتها، شكلت أميركا قوة دافعة داخل الشرق الأوسط فيما يخص دعم المصالح الوطنية الأميركية بالمنطقة. وفي خضم جهودها لتحقيق ذلك، ساندت أميركا أنظمة غير ديمقراطية وبعض الأنظمة التي لا تحظى بالاحترام داخل الشرق الأوسط، ومن بين الأمثلة على ذلك السعودية ونظام صدام خلال فترة مبكرة والمغرب والجزائر.. إلخ. وعليه، يشكك الكثيرون في الشرق الأوسط في دوافع الولايات المتحدة ورغبتها في إقرار الديمقراطية بالشرق الأوسط. والتساؤل الآن هل الانتقال إلى الديمقراطية يخدم مصالح الولايات المتحدة على النحو الأمثل، أم أنه يخدم مصالح الدول الشرق الأوسطية؟ إن تطور الديمقراطية داخل الشرق الأوسط لن يتحقق بسهولة إذا ما جرى النظر إلى انطلاق الديمقراطية بالشرق الأوسط كخطوة اتخذتها الولايات المتحدة لتعزيز مصالحها الخاصة. كما أن هناك مخاوف من أن "الحرب العالمية على الإرهاب" ليست سوى قناع لإقرار ديمقراطية على النسق الغربي داخل الشرق الأوسط. ولضمان نجاح الديمقراطية في الشرق الأوسط، يجب أن تعكس المصالح شرق الأوسطية، وليس المصالح الأميرية فحسب. إضافة لذلك، يجب أن تبدو الديمقراطية كعنصر مفيد لشعوب المنطقة ــ بحيث تبدو احترامًا للطبيعة الدينية للثقافة السائدة بالمنطقة، بجانب تحسين أوضاع الإنسان العادي.
من بين المؤشرات الرئيسة التي تشكل اختبارًا للديمقراطية في الشرق الأوسط كيفية إقرار الديمقراطية في العراق. هل ستسمح أميركا للعراق بالتطور من تلقاء ذاته باتجاه الديمقراطية أم أنها ستحاول تصيغ ديمقراطيته على نسق أو في صورة نظام موالي للغرب؟ مثلاً، من المحتمل أن تصعد جماعات مسلمة متنوعة (الإخوان المسلمين، الشيعة.. إلخ) في دول شرق أوسطية مختلفة ككيانات حاكمة داخل أنماط ديمقراطية من الحكم. إذا بدا العراق كدمية أميركية، فإن دولاً أخرى ربما لا تشعر بالرغبة في التحرك باتجاه الديمقراطية، وإذا فعلت ذلك، هل ستقبل أميركا ظهور أنظمة ديمقراطية شرق أوسطية من تلقاء ذاتها ربما لا تأبه بالمصالح الغربية، خاصة خلال السنوات الأولى من ظهور مثل هذه الأنظمة؟
من الضروري الأخذ في الاعتبار حاجات ورغبات شعوب المنطقة. هل يرغبون حقًا في الديمقراطية وعلى استعداد لتغيير أساليبهم لبناء الديمقراطية وجعلها تنجح؟ خاصة وأن تغيير الثقافة السياسية ينطوي دومًا على صعوبة. إن إعلان تفضيل الديمقراطية كنمط في الحكم أمر يختلف تمامًا عن تعديل الذات لمتطلبات هذه الديمقراطية وقبول بعض المخاطر التي تصاحبها. على سبيل المثال، أوضح التاريخ أنه خلال السنوات العشر الأولى لظهور نظام ديمقراطي جديد، يزداد احتمال اندلاع الصراعات سواء خارجيًا أو داخليًا مع تحرك الديمقراطية الوليدة نحو النضج. لذا يجب أن تلتزم شعوب هذه الديمقراطيات الجديدة بالنموذج الديمقراطي وأن يكون لديها استعداد للتغلب على التحديات التي تقابلها.
إن مجرد تغيير النظام السياسي من استبدادي إلى آخر ديمقراطي لن يكون كافيًا لبناء ديمقراطية جديدة، ذلك أن هذا سيؤثر على الأنظمة الاقتصادية والدينية والتعليمية والإعلامية والأمنية والقانونية، وبالتالي سيحتاج الأمر بعض الوقت حتى يتكيف الشعب وأنظمة الدولة مع النمط الجديد للحكم ونظام السوق الحرة الذي سيظهر. علاوة على ذلك، ستحتاج الدول الديمقراطية القائمة لتوفير الدعم وإبداء الصبر تجاه الديمقراطيات الجديدة الناشئة. في رأيي، تحتاج الديمقراطية بيئة صالحة مثل توافر وضع اقتصادي معقول، وشعب متعلم، وتفهم وسطي للقضايا الدينية. بالنظر إلى القاعدة الدينية القوية داخل دول الشرق الأوسط، من المهم أن تقنع القيادات الإسلامية شعوبها بأن الديمقراطية أمر جيد لبلادهم وأنها لا تتعارض مع القيم الإسلامية الوسطية. وبإمكان هذا الدعم العام من جانب القيادات الدينية المعاونة في بناء تأييد قوي لإقرار أنظمة ديمقراطية والتغيير الذي سيصاحب عملية التحول.
وبالنظر إلى التغيير اللازم والمتطلبات الزمنية المصاحبة له، فإنه من غير المتوقع أن تتمكن الدول شرق أوسطية من التحول سريعًا إلى نمط حكم ديمقراطي. وهناك مخاوف داخل الشرق الأوسط من أن محاولة الولايات المتحدة الإسراع من "دمقرطة" الشرق الأوسط مرتبطة بإجراءاتها العدائية في العراق وأفغانستان واستراتيجيتها الخاصة باتخاذ إجراءات استباقية حال اختيارها ذلك. إن التحرك بسرعة مفرطة قد يؤثر على استقرار المنطقة، حيث قد تبدو الدوافع الأميركية أنانية وغير آبهة بأسلوب الحياة في الشرق الأوسط. لذا، من المهم أن تتحرك دول المنطقة نحو الديمقراطية على نحو منطقي وثابت ومنضبط على أساس تحدده هذه الدول ذاتها. في الوقت ذاته، سيتعين على الدول الغربية توفير الدعم الاقتصادي والتعليمي والتقني للمساعدة في تعزيز جهود التنمية والتغيير بالمنطقة.

مفهوم الديمقراطية من المنظور الإسلامي
قبل المضي قدمًا في هذه المناقشة، من المهم تفهم كيف ينظر البسطاء في الشرق الأوسط إلى الديمقراطية. في الواقع، إن الديمقراطية، ككيان علماني، من غير المحتمل أن يلقى قبولاً من جانب الغالبية العظمى من أبناء المنطقة لكونهم مسلمين متدينين. بصورة عامة، هناك توترات داخل الدول المسلمة فيما يخص بناء ديمقراطي من الحكم. من ناحية، هناك من يعتقدون بإمكانية تعايش الحكم الديمقراطي مع الطبيعة الدينية للشعوب شرق الأوسطية. ومن ناحية أخرى، هناك من يؤمنون بأن الثقافة القبلية للدول شرق الأوسطية ربما لا تلائم الحكم الديمقراطي نظرًا لظهور عدد هائل من الفرق والجماعات. وعليه، ستكون النتيجة ظهور مجتمع "ممزق" لا يمكنه التوحد بفاعلية، إضافة لمخاطرة إمكانية أن يؤثر ذلك على التناغم الذي يكفله الدين الإسلامي. ورغم هذه المخاوف، فإن روح الديمقراطية، أو ممارسة حكم الذات، يجري النظر إليها بإيجابية طالما أنها تسهم في بناء البلاد وتدعم القاعدة الدينية مقابل الحط من قيمة الدين وزعزعة الاستقرار. وسيكمن التحدي في خلق هذا التوازن، مثلما كان التحدي أمام غالبية الديمقراطيات الغربية الإبقاء على الفصل بين الكنيسة والدولة. ونستخلص من ذلك أنه مع نمو الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإنها لن تتطور بالضرورة اعتمادًا على النسق الغربي ــ وإنما ستتميز بصورتها أو شكلها الخاص المتميز بروابط دينية قوية.
ومن المتعذر تفهم الديمقراطية في الشرق الأوسط من دون تفهم فكرة الخلافة. يعود تاريخ الخلافة إلى زمن النبي محمد، فخلال فترة حياته والأعوام السبعين التي تبعتها، قامت دولة الخلافة الرشيدة كأسلوب للحياة بين شعوب المنطقة وبين الكيانات الحاكمة. ويجري النظر لهذه الفترة باعتبارها شديدة الخصوصية تمثل نموذجًا مثاليًا للحكم، وتعد على نطاق واسع الغاية التي يطمح أي أسلوب جديد للحكم للوصول إليها تمامًا مثلما شكلت "الحياة والحرية والسعادة" القيم التي ترمي الولايات المتحدة لتحقيقها. من المنظور شرق الأوسطي، من المحتمل أن تصيغ الكلمات التالية صورة الحكم الديمقراطي المرغوب: "الإنصاف والعدل والمساواة والخير".
واحتلت الرغبة في تحقيق هذه القيم دومًا مرتبة متقدمة في أولويات المجتمع شرق الأوسطي. بيد أنه في بعد وفاة محمد بفترة، بدأت الخلافة في الانحراف عن القيم التي رعاها النبي، حيث شرع الخلفاء في توجيه اهتمامهم لمصالحهم الخاصة وسعوا لاستغلال سلطتهم في تحقيق الرخاء لأنفسهم، بدلاً من الاهتمام برخاء شعوبهم. وحاول الحكام ضمان إحكام السيطرة على السلطة عبر تمريرها إلى اقاربهم، بدلاً من نقلها إلى القيادات الأكثر كفاءة حسبما يحدد الأشخاص المخول لهم ممارسة البيعة. وعليه، تفاقم السخط إزاء أسلوب إدارة الخلافة، وفقد الكثيرون الحق في اختيار حاكمهم مما دفعهم لاختيار نمط الخلافة المفضل لهم بأنفسهم، الأمر الذي أدى بدوره لظهور فرق قبلية وطائفية داخل الكيان الإسلامي الذي كان موحدًا من قبل. عند النظر إلى الكيان الإسلامي شرق الأوسطي اليوم، نجد أن تداعيات الانقسامات الأولى داخل المجتمع الإسلامي ما تزال حاضرة، عندما تواجدت العديد من الفرق القبلية والطائفية. وبالنظر إلى هذا الوضع الراهن، يتضح أن التحدي الرئيس هو إعادة توحيد هذه الفرق القبلية والطائفية بحيث يمكن إعادة النمط الأول من الخلافة.
من القضايا المرتبطة بالخلافة البيعة والشورى، حيث ظهرت كلتا العمليتان خلال السنوات الأولى من عمر الإسلام، مما أكسبهما أهمية واحترامًا كبيرًا. تمثل البيعة عملية الانتخاب لاختيار الخليفة، بينما تشكل الشورى الكيان الاستشاري والرقابي للخلافة. وتجري ممارسة الشورى من منظور ديني لضمان اضطلاع الخليفة بواجباته على نحو يتفق مع تعاليم الإسلام. الملاحظ أنه رغم تميز العمليتان بروابط دينية تاريخية، فإنهما قادرتين أيضًا على الإسهام في تحقيق الديمقراطية.
وبالنظر إلى الطبيعة المتدينة للثقافة شرق الأوسطية، يظهر التساؤل حول كيف يمكن بناء ديمقراطية شرق أوسطية؟ هل ستملك الحكومة ثلاثة أو أربعة سلطات؟ هل ينبغي إضافة سلطة دينية للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لضمان الالتزام بالمعتقدات والأحكام الإسلامية؟ الإجابة البسيطة قد تكون نعم، إلا أنها قد لا تكون الأمثل. في ظل الوضع المثالي، ينبغي أن تضع جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية نصب أعينها المعتقدات الإسلامية عند الاضطلاع بمهامها. وتبعًا لهذا التصور، تتلاشى الحاجة لوجود سلطة دينية منفصلة. بيد أن إقرار الأعمدة الرئيسة للإسلام داخل القوانين يستلزم تمثيلها في الدستور أو وثيقة مشابهة. بيد أن ذلك لا يعني قيام نظام ديني، وإنما يعني أن نظامًا ديمقراطيًا سيقام على أساس المعتقدات الإسلامية.
عند النظر إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط، نجد أن أهم إجراء ينبغي التفكير فيه هو السماح لها بالظهور. قد لا تنتمي هذه الديمقراطية لذات النمط أو الصورة المميزة للديمقراطية الغربية، لكن ذلك سيمثل بداية جيدة. بوجه عام، يؤيد غالبية أبناء الشرق الأوسط روح الديمقراطية وسيؤيدونها تسعى طالما أنها لتحقيق الوحدة. ويتضمن ذلك السماح بوجود بعض الفرق التي قد تعتبر راديكالية، خاصة إذا حظيت بأصوات الغالبية. ولا يمكن للعالم أن يطالب بالديمقراطية في الشرق الأوسط، ثم يندد بالشكل الذي تأتي عليه لأنه سمح على نحو مشروع بوصول حزب غير موالي للغرب للسلطة. مثلاً، انتخب الفلسطينيون مؤخرًا أعضاء من جماعة "حماس". ومع أن هذه الجماعة لا تحظى بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، تبقى الحقيقة أنه تم انتخابها بصورة شرعية. والآن، أصبح على "حماس" وباقي العالم تسوية خلافاتهم السياسية. ومن المهم حتى في ظل وجود خلافات سياسية كبرى، خاصة فيما يتعلق بوضع إسرائيل، السماح للأحزاب المنتخبة بصورة شرعية بفرصة ممارسة الحكم. حال عدم توفير هذه الفرصة، ستشكك الدول شرق الأوسطية في مصداقية الدول الغربية وحقيقة نواياها تجاه الحكم الديمقراطي وما يمثله.
خلال المرحلة الراهنة من تاريخ الشرق الأوسط، تتسم مسألة الديمقراطية بالأهمية، وتبدو المنطقة على استعداد للتفكير بها. الملاحظ أن الكثيرين في الشرق الأوسط يشعرون صور الحكم الاستبدادي القائمة حاليًا والتي سبق وجودها لم تحقق التقدم المنشود، خاصة عند مقارنتها بأجزاء أخرى من العالم المسلم، مثل ماليزيا وباكستان وإندونيسيا، ناهيك عن بعض الدول الغربية.
إن مبادئ الإسلام لا تقتل الديمقراطية. في الواقع، بمقدور للإسلام والديمقراطية التعايش معًا. جدير بالذكر أنه عندما انطلقت الديمقراطية في الولايات المتحدة، قامت على أساس القيم اليهودية ــ المسيحية. وبالنظر للنفوذ الكاسح الذي تمتعت به كنيسة إنجلترا، قررت الولايات المتحدة أن تقر في دستورها صياغة توفر بعض الفصل بين الكنيسة والدولة، لكن الدين لم يمح من الحكومة، رغم اعتقاد البعض بعكس ذلك. من الواضح أنه خلال السنوات الأولى، تميز الدين بالأهمية وصاغ قيم الأمة الأميركية. في الشرق الأوسط، لا يختلف التوجه عن هذا الأمر، باستثناء أن الدين الإسلامي هو الأساس الذي ستقوم عليه الصورة شرق الأوسطية من الديمقراطية. مثلما الحال مع التقليد الأميركي، سيسمح للديانات الأخرى بالوجود. بيد أن الديانة الغالبة على الشرق الأوسط هي الإسلام، وبالتالي من المنطقي الافتراض بأن الصورة الديمقراطية للحكم ستقوم على المعتقدات الإسلامية. ويتمثل التحدي القائم في ما إذا كان باقي العالم سيتمكن من قبول نظام ديمقراطي شرق أوسطي يقوم على المعتقدات الإسلامية. عمليًا، لا ينبغي أن تمثل تلك قضية خلافية لأن المعتقدات الإسلامية تفرز سلوكًا لا يختلف عن أنماط السلوك الديني الأخرى.

التحديات أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط
داخليًأ، هناك عدد من التحديات المتعلقة بتطور الديمقراطية تثير الانقسام، منها أوضاع الفقر والتعليم وممارسة الدين والطبيعة النفسية للسكان والحكومة. داخل الشرق الأوسط، يبلغ إجمالي الدخل 700 مليار دولار، أقل من دخل أسبانيا وحدها. وعند النظر لجميع الدول المسلمة، بما في ذلك الواقعة خارج الشرق الأوسط، نجد أن إجمالي الدخل يقل عن دخل فرنسا. وتقف عدد من العوامل وراء الفقر في الشرق الأوسط منها الحروب، مثل الصراع العربي ــ الإسرائيلي، والصراع بالصحراء المغربية بمنطقة الصحراء الكبرى، والصراع بين سوريا ولبنان. وتسببت هذه الصراعات في زيادة الديون الداخلية والخارجية وعاقت النمو الاقتصادي. وتفاقمت المتاعب الاقتصادية جراء السياسات الاقتصادية والقرارات السياسية الرديئة. على سبيل المثال، حاولت الكثير من الدول شرق الأوسطية الحفاظ على الأسواق الخاضعة للسيطرة الحكومية بدلاً من الأسواق الحرة. وبالتالي، لم تتوافر حوافز تدفع عجلة الاقتصاد.
كما أدت السياسات الحكومية تجاه خلق الوظائف لظهور مشكلات لأنه غالبًا ما جرى خلق أعداد مفرطة من الوظائف في وقت لا يتوافر فيه تمويل كاف، مما تسبب في رفع معدلات البطالة وإثارة السخط الشعبي تجاه الحكومة. وأصبح السخط الشعبي تجاه الحكومة من العناصر الكبرى القائمة اليوم، ويشكل نقطة خلافية فيما يخص الديمقراطية. في أذهان أبناء الشرق الأوسط، يجري النظر إلى أي حكومة على نحو مريب. إضافة لذلك، يبدو أن من في السلطة يعيشون في رفاهية، بينما يناضل الإنسان العادي كي يعيش. ويكافح الأفراد العاديون لقضاء حياتهم يوم بيوم، في وقت يفتقر الاقتصاد للنشاط ويعاني الكثير من أبناء المنطقة من البطالة. وبالنظر لضعف الأنظمة الاقتصادية، يلجأ الناس لأي طريق يمكنهم من البقاء، وغالبًا ما يكون الفساد هو المسار الذي يظهر أمامهم حيث أن من يتحكمون في السلطة والثروة يميلون لاستغلال المواطنين الأكثر فقرًا. وعليه، ينظر السلوك السياسي إلى هذا التوجه القائم على المبادلة باعتباره أمرًا طبيعيًا. ويخلق ذلك سلوكًا ثقافيًا يتناقض مع القيم التي تقوم عليها الديمقراطية. لدى تطبيق الديمقراطية، سيظهر ميل قوي لدى الشعوب لـتقديم أموال للسياسيين في بلادهم مقابل الحصول على خدمات استثنائية. بمرور الوقت ومن خلال التعليم يمكن أن يتبدل هذا الوضع، لكن ذلك قد يستغرق جيلاً أو اثنين كي يتحقق. ولتناول مشكلة الفقر في الشرق الأوسط، يجب تحسين الظروف الاقتصادية والسياسية سواء تم إقرار ديمقراطية أم لا. وتخلق مسألة ضرورة التغيير بدورها فرصة أمام الديمقراطية. بيد أنها تخلق في الوقت ذاته فرصًا أمام أنماط أخرى من الحكم والتي لا يعد بعضها مرغوبًا. وموجز القول أن الداعين لإقرار الديمقراطية في الشرق الأوسط أمامهم فرصة سانحة الآن.
حال التغلب على مشكلة الفقر في الدول شرق الأوسطية، فإنه قد تتاح فرصة أكبر لظهور الديمقراطية سريعًا بهذه البلاد. داخليًا، يتعين على دول المنطقة اتخاذ إجراءات لتعزيز اقتصادياتها، لكن من غير المحتمل أن تنجح في ذلك من دون توافر دعم الديمقراطيات الغربية. وقد يأتي الدعم في صورة استثمار في المشروعات التجارية بالشرق الأوسط وإقامة أخرى بالمنطقة. ومن المهم الالتزام بدفع اقتصاديات المنطقة قدمًا. ولضمان توفير الدعم المناسب واتخاذ الإجراءات الاحترازية الازمة ضد مخاطر الفساد، ينبغي بناء وكالة حكومية خاصة أو نظام إبلاغ لمراقبة سلوك الشركات شرق الأوسطية بانتظام. وربما يكون الوقت قد حان لتنشيط دور جامعة الدول العربية في مراقبة الشؤون الاقتصادية والتجارية. ومن الممكن أن تسهم مثل هذه الإجراءات في التخفيف من وطأة الفقر وتوفير فرصة أفضل أمام جهود إقرار الديمقراطية.
في الوقت الذي يرى المواطن شرق الأوسطي العادي الولايات المتحدة وهي تنفق مليارات الدولارات على حربها بالعراق، ربما يسارع للقول: لماذا لاتنفق واشنطن هذه الأموال في تنمية الشرق الأوسط اقتصاديًا بدلاً من انفاقها على الحرب؟ وتوحي وجهة النظر تلك أن الدعم والتحفيز الاقتصاديين ربما يسهمان في تحقيق تقدم ديمقراطي أسرع. إلا أنه من المنظور الأميركي، تشكل الأموال التي يجري انفاقها على الحرب شرطًا أساسيًا مسبقًا لبناء الظروف المواتية لقيام ديمقراطية دائمة. من دون وجود عراق وأفغانستان مستقرين، ربما تراود أبناء الشرق الأوسط الشكوك في مصداقية الديمقراطية. ومن الواضح أننا نفضل تخصيص مليارات الدولارات لجهود اقتصادية سلمية، لكن مثل هذه الإجراءات الاقتصادية الداعمة تحتاج لبيئة مناسبة كي لا تضيع هباءً. وهناك حاجة للاعتراف بأن الوسائل النشطة ليست السبيل الوحيد لدعم ظهور نظام ديمقراطي مستقر، ذلك أن بمقدور الولايات المتحدة استغلال وسائل غير نشطة لبناء الديمقراطية في العراق وأفغانستان. ولتحقيق هذا، يتعين على واشنطن الحد سريعًا من مستوى التقاتل داخل العراق وأفغانستان وإبداء دعمها لاقتصاديات المنطقة، مثل مصر.
ومن شأن ضعف النظام التعليمي وهشاشة الاقتصاد خلق مشكلات أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط. باستثناء سوريا وإسرائيل، تقترب نسبة المواطنين غير المتعلمين ممن يجهلون القراءة والكتابة من ما بين 30% و 45%. ويتسم نظام التعليم بالضعف وانخفاض مستوى حضور الطلاب ورداءة المواد التعليمية ومحدودية التمويل وعدم توافر القدرة على استخدام شبكة الإنترنت. ويتسم مجمل النظام التعليمي بالضعف وعجزه عن توفير حوافز للمواطنين للسعي وراء التعلم.
علاوة على ذلك، فإن القيود الحكومية المفرطة وأعداد الموظفين العموميين المتضخمة تخنق روح المبادرة الفردية وتسهم في تعزيز قاعدة نفوذ الأحزاب السياسية الحاكمة. في مصر، جرى رفع القيود الحكومية في عهد الرئيس السادات في محاولة لتحفيز النمو الاقتصادي. بيد أن هذه الجهود لم تؤت ثمارها في عهد الرئيس مبارك. فيما يخص التعليم في الشرق الأوسط، من المتعذر تحسينه عبر إصلاحات تعليمية فحسب، وإنما يجب توفير حوافز اقتصادية تدفع المواطنين لرؤية فوائد من وراء نيل التعليم. وعليه، يجب ربط الإصلاحات التعليمية بتحسين القدرة الاقتصادية. ويجب على السلطات الحاكمة تنفيذ سياسات تشجع النمو والحرية الاقتصاديين.
الملاحظ أن صور الحكم تتنوع بدرجة كبيرة داخل الشرق الأوسط، وتتضمن أنظمة ملكية، وحكومات مؤقتة بسبب وجود قوة محتلة، وأنظمة ديمقراطية، وأخرى جمهورية، واتحاد، ونظام ديني. وتخلق الطبيعة الدينية للشرق الأوسط تحديات أمام السلطات الحاكمة، خاصة في ظل السيطرة المركزية. من ناحيتها، تميل الحكومات نحو الحكم العلماني، الأمر الذي يقصي قطاعات واسعة من السكان ممن يؤمنون بضرورة عدم فصل الدين عن الحكم. وعادة ما تتعرض القيادات الدينية التي تتجاوز الحدود المرسومة لها فيما يتعلق بقضايا الحكم للسجن من دون محاكمة. والملاحظ أن الحكومات التي تدعي الديمقراطية تتمسك بسيطرة مركزية محكمة وتتدخل في نتائج الانتخابات عبر السيطرة على وسائل الإعلام وممارسة التهديد الصريح.
عندما تفرط الحكومة في أعمال القمع، ربما يلجأ المقموعين للإرهاب. وتعد الأراضي المحتلة في إسرائيل مثالاً جيدًا على ذلك. ونظرًا لوجود القمع، تظهر بيئة عقيمة تؤدي في النهاية لظهور حركات متطرفة. ورغم وجود عناصر دينية معتدلة في المجتمع، فإنها ليست على ذات المستوى من النفوذ مثل المتطرفين وغالبًا ما يجري ربطها بالأفعال الشريرة التي يرتكبها المتطرفون. ويضع هذا العناصر الدينية المعتدلة في مواجهة المتطرفين. ونظرًا لقدرتهم على حشد النفوذ، يحظى المتطرفون بالشعبية. وعند النظر للجماعات المتطرفة، مثل "حماس"، نجد أنها من المحتمل أن تصل السلطة عبر السبل الديمقراطية. ورغم ذلك، ربما تبقى غير ممثلة للشعب بالكامل، خاصة العناصر الدينية المعتدلة. لذا فإنه حتى في ظل وجود "حماس" منتخبة، قد تبقى تحديات قائمة على امتداد الطريق، لكن هناك أمل في أن تتمكن القطاعات الدينية المعتدلة من تخفيف حدة الإجراءات المتطرفة.
أيضًا، تطرح السيطرة على الإعلام مزيدًا من المشكلات أمام المسلمين المعتدلين، ذلك أن إدارة وسائل الإعلام تجري عبر فلسفة علمانية. ويضمن الإعلام العلماني سيطرة الحكومة ومزيد من الإقصاء للمتدينين المعتدلين. ينشر هذا الإعلام فلسفة الحياة الليبرالية التي لا يؤيدها الكثير من المسلمين المعتدلين، وتوفر أداة يستغلها المتطرفون لأنها تمكنهم من الوقوف على أرضية مشتركة مع المعتدلين، الأمر الي يقوي شوكة الفلسفة المتطرفة. وبسبب ممارسة الحكومة سيطرة مفرطة على الإعلام، لا تضطلع وسائل الإعلام بأي دور محاسبي نيابة عن المجتمع ككل. إذا تواجد فساد داخل الحكومة، من المحتمل أن يمر من دون الإبلاغ عنه. وعليه، تتولد قناعة لدى الجماهير بأن حكوماتهم صالحة وأنها تهتم بهم كمواطنين. إلا أن الكثيرين في الشوارع بدأوا في التعرف على الحقيقة عبر وسائل أخرى.
وستبقى وسائل الإعلام عقبة أمام إقرار نمط حكم ديمقراطي حتى يصبح من الممكن الوثوق في قدرتها على تمثيل ما هو أبعد من مجرد وجهة النظر الحكومية. ويعد هذا تحديًا هائلاً لأنه يستلزم ممن يتقلدون السلطة إبداء استعدادهم للتخلي عن سيطرتهم على الإعلام. جدير بالذكر أن المراحل الأولى من عمر الديمقراطية ربما تفتقر إلى التغطية الموضوعية للأحداث حتى يصبح من الممكن بناء مؤسسات إعلامية مستقلة من دون تعرضها لعقاب. وربما تكون إحدى الخطوات الأولى المحورية على هذا الصعيد تقديم المؤسسات الإعلامية العالمية يد العون وممارسة الديمقراطيات ضغوطًا من أجل إقرار حرية الإعلام.

مخاطر الديمقراطية في الوقت الراهن
مثلما سبق وأن ذكرنا، يتألف الشرق الأوسط من مجموعة متنوعة من أنظمة الحكم. تتمثل الغالبية في أنظمة ملكية تملك السيطرة الحصرية على المناطق الواقعة تحت حكمها. ومن غير المحتمل أن تقدم هذه الحكومات طواعية على التخلي عن السلطة قريبًا لصالح نمط ديمقراطي من الحكم. إلا أن هناك حاجة لوجود رؤية موحدة بإمكانها توحيد الدول شرق الأوسطية على نحو أفضل بغض النظر عن نمط الحكم السائد. تعد منظمات مثل "أوبك" وجامعة الدول العربية نماذج على مؤسسات تمثل مصالح الشرق الأوسط، لكنها لا تعمل ككيانات تسهم في توحيد أواصر المنطقة مثلما نرى، مثلاً، في اتحاد شمال أفريقيا. وربما يكون من مصلحة الدول شرق الأوسطية الالتفات لنمط الحكومات الآخذ في الصعود داخل أفريقيا في خضم محاولتها تنظيم أنفسها على أساس إقليمي رغم تباين أساليب الحكم.
وبالنظر لعدد الأنظمة الملكية القائمة في الشرق الأوسط، نجد أنه من غير المثير للدهشة أن الشعوب تتطلع نحو حكوماتها لضمان رفاهتها. تاريخيًا، كان هذا هو الوضع القائم منذ فترة بعيدة. وبوجه عام، قامت علاقة الشعب بالحكومة على فكرة اعتماد الأول على الثاني وتقديم الثاني أفضال للأول. في ظل القيادات الرشيدة، كان هذا أسلوبًا مقبولاً للحياة، لكن في ظل القيادات غير الجديرة بالثقة والفاسدة، افتقدت الجماهير التمثيل للتعبير عن مطالبها والقدرة على تلبية احتياجاتها. ومن جديد، تطرح الديمقراطية تحديات، حيث يجب تعزيز روح المبادرة الفردية ومكافئتها بحيث يتمكن أفراد المجتمع من تفهم أهمية صياغة مصيرهم بأيديهم بدلاً من الاعتماد على الحكومة في هذا الشأن. بالتأكيد سيستغرق هذا وقتًا، وسيتطلب قيادة قوية، وقاعدة وظائف واقتصاد داعمين.

تباين الرؤى بين الثقافتين شرق الأوسطية والغربية تجاه الديمقراطية
رغم وجود أمل أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط على المدى البعيد، فإنه قد لا يكون النموذج الغربي، ذلك أن الديمقراطية بالمنطقة يجب أن تضع في اعتبارها تنوع أنماط الحكم والعثور على خطاب يوحد صفوف المنطقة ككل. وهنا تحديدًا تكمن المخاطرة. حاليًا، هناك معركة مستعرة بين متطرفين ومعتدلين والغربي، حيث يحاول كل طرف بجد فرض سيطرته وإقرار أسلوب حياة يعكس مصالحه.

مستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط
ينظر المتطرفون إلى الخلافة باعتبارها الغاية الأسمى، بينما يتابع المعتدلون صعود ديمقراطيات في دول مثل مصر وسوريا ولبنان واليمن. أيضًا، من الواضح أن فلسطين تحظى باهتمام العالم مع تحرك "حماس" نحو المقدمة. وهنا يطرح تساؤل نفسه: حال ظهور الديمقراطيات، كيف سيكون شكلها؟ أعتقد أن هناك ثلاثة خيارات قائمة: أولها: أن تتمكن الديمقراطيات ذات الطابع المتطرف، مثل "حماس"، من احتلال دائرة الضوء بقدرتها على التنظيم وتلبية احتياجات السكان الذين تمثلهم. وسيكمن التحدي فيما إذا كانت مثل هذه الأنظمة قادرة على المنافسة على الساحة العالمية بفاعلية من دون بتر روابطها ببيئتها الوطنية، مما يفقدها ناخبيها في نهاية الأمر. ثانيًا: أن تأتي الديمقراطيات على نسق التقاليد المعتدلة السائدة بدول مثل مصر ولبنان، حيث لا تحظى الأيديولوجيات المتطرفة بالقبول الواسع، لكن الجماهير تفتقد في الوقت ذاته لإدراك مناسب لحقيقة مشكلات الفساد داخل الحكومة. ولتجنب الانزلاق نحو الأيديولوجيات المتطرفة، من المهم أن تطرح هذه الديمقراطيات أسلوبًا أفضل للحياة عبر بناء حكومة تمثيلية. أما الخيار الأخير والأقل احتمالاً فهو ظهور ديمقراطيات على النسق الغربي، بيد أن تعقيدات الشرق الأوسط من غير المحتمل أن تعكس صورة غربية. والمؤكد أن النجاح في بناء ديمقراطية في العراق سيأتي بمثابة علامة فارقة في مسار الدول الخليجية نحو المستقبل. وإذا نجح ذلك، ربما يحالف النجاح أيضًا الديمقراطيات المعتدلة في المستقبل، حيث سيثبت ذلك أن الصراعات الطائفية (سنة وشيعة) يمكن تسويتها سلميًا، ويمكن حكم كلاهما من جانب كيان موحد. كما سيثبت أن الديمقراطية بمقدورها القضاء على الفقر المتفشي وتحسين مستوى جودة الحياة.

خاتمة وتوصيات
سيمثل التعليم والإعلام عنصرين محوريين في بناء نظام ديمقراطي. ويجب أن يتم الانتقال من أدوات سيطرة الدولة نحو أدوات سيطرة الأفراد. ومع انتشار وسائل إعلامية، مثل الانترنت والتلفزيون، ستتمكن قدرتهم على التثقيف من أسفل لأعلى من تحفيز الجماهير. الواضح أن العناصر المتطرفة تدرك أهمية وسائل الإعلام، لذا تحاول كسب نفوذ عبر استغلالها. ولضمان نجاح الديمقراطية، يجب أن يظهر الإعلام أن أسلوب الحياة المعتدل هو السبيل الأفضل.
سيأتي دور الدين في الحكومة من بين قضايا محورية كثيرة أخرى. وفي الوقت الذي يرى المعتدلون مكانًا للمعتقدات الإسلامية، فإن التاريخ يكشف أن دمج الدين في الديمقراطية شكل دومًا تحديًا. بيد أن ذلك لا يعني أن الشرق الأوسط لن ينجح، وإنما من الضروري خلق تفهم ديني مشترك بين جميع العرقيات والثقافات ووضع المعتقدات غير الإسلامية في الاعتبار.
يجب أن ينظر الشرق الأوسط لنفسه مثلما الحال مع الاتحاد الأوروبي، بمعنى أنه يمثل دولاً وثقافات متنوعة تتسم بمستويات معيشية مختلفة، ورغم ذلك ترى في تنظيم أنفسها سبيلاً لتقدم أوروبا ــ اقتصاديًا وأمنيًأ ودوليًا. ولهذه الأسباب ذاتها، ينبغي أن ينظم الشرق الأوسط نفسه على المستوى الإقليمي. ومن شأن ذلك تنشيط المنطقة وتعزيز التفاعلات بين الأسواق الحرة، الأمر الذي يعزز التطور الديمقراطي. وأخيرًا، مع تطور الشرق الأوسط، ينبغي على باقي العالم السعي بجد لإيجاد سبل للمعاونة في تعزيز القيم والأساليب الديمقراطية. ويبدو الاستثمار في السبل التعليمية بداية جيدة على هذا الصعيد.