خبر : عقاب التاريخ ...بقلم: طلال عوكل

الإثنين 12 أغسطس 2013 04:50 م / بتوقيت القدس +2GMT



منذ اندلاع ونجاح الثورة الشعبية الإيرانية بقيادة آية الله الإمام الخميني العام 1979، لم يشهد العالم مشاركة شعبية واسعة وضخمة في عمليات التغيير السياسي والاجتماعي، كالتي وقعت وما تزال في عدد من بلدان "الربيع العربي".

ربما لأن الثورة الإيرانية في حينه، كانت مجرد نموذج فريد ومعزول، فإنها لم تحظ بالاهتمام الذي ينبغي أن تحظى به، بعد أن تكررت التجربة في بعض البلدان العربية، وذلك من قبل المفكرين والفلاسفة والمثقفين.
إن كان ثمة مجال لمقاربة الأوضاع الجارية في المنطقة العربية بالتغير التاريخي الذي شهدته أوروبا منذ القرن الثاني عشر حتى السادس والسابع عشر، فإننا سنلاحظ غياب الفلاسفة والمفكرين العظام عن مشهد الربيع العربي، فيما حضرت أدوارهم بقوة في وخلال المشهد الأوروبي التاريخي، حيث لعبوا دوراً ثورياً تنويرياً وقيادياً بارزاً.
نتحدث عن مارتن لوثر كينغ، وهيجل وفيورباخ، ومونتسكيو، وفولتير وجان جاك روسو، وماركس وإنجلز، والعشرات من الفلاسفة والمفكرين العظام. وخلال القرن الماضي، شهد العالم تفكك وانهيار المنظومة الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار النظام الاشتراكي في كل الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية باستثناء كوبا، لكن عمليات التغيير التاريخي تلك، لم تكن بسبب المؤامرات الخارجية، ولا شهدت مشاركات شعبية واسعة كالتي تعم شوارع بعض دول الربيع العربي، ربما باستثناء بولندا ورومانيا.
لقد سقطت التجربة الاشتراكية المتحققة رغم ضخامتها وضخامة إمكانياتها، ورغم استمرارها لما يقرب السبعين عاماً، بفعل عوامل داخلية، وبسبب عدم قدرة النظام ذاته على الاستمرار لفترة أطول. الربيع العربي يطرح أسئلة جوهرية ذات صلة بالفكر الإنساني المتوارث عن الثورات، وعوامل التغيير، وأدواته، إذ لم تعد الطبقة العاملة حتى لو تحالفت مع الفلاحين، ولا أحزابها، هي بالضرورة صاحبة المصلحة في الثورة، وقيادتها.
ولم تعد البرجوازية أيضاً وفق النظريات المثالية، بحكم دورها القيادي في عملية الإنتاج، هي المرشحة لقيادة الثورة ضد الإقطاع. في زمن العولمة تتغير الكثير من المعادلات، والظروف الموضوعية التي ترفض إسناد المهام الثورية لطبقة أو فئة اجتماعية بعينها، وتحيل مهمات التغيير الثوري للجماهير، وفي القلب منها الشباب الذين تقصيهم الأنظمة الاستبدادية، وتقصي معهم آفاق التطور المستقبلي.
ولم يعد كذلك في زمن العولمة، زمن الجماهير، أية إمكانية لوجود الحزب القائد، حزب الأغلبية المطلقة، فالنهوض بأعباء مرحلة التغيير تتطلب بالضرورة، اعتماد مبدأ الشراكة السياسية، كتعبير عن التنوع الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي الذي أقصته أنظمة الاستبداد.
ثمة ضرورة ماسة للإشارة إلى استنتاج عميق، لم تنتبه إليه الأحزاب والحركات المؤهلة بحكم حجمها وإمكانياتها، لأن تقود المجتمعات إلى مستقبل متغير، وهي أن الجماهير حين تخرج بالملايين، لا تتوقف عن سؤال ضد من ومع من، إنما هي تخرج ضد النظام السياسي القديم، بكل مكوناته ومفاصله، ومناهجه في العمل.
والمقصود بالنظام القديم ليس فقط الحكام الاستبداديين، وأدواتهم البيروقراطية، وإنما الحركات السياسية بما في ذلك المعارضة التي نشأت في أحضان النظام القديم، واستمدت بعض ملامحها من حيث أساليب وآليات العمل، والبرامج، من هوية النظام القديم.
كان ومن غير الممكن أن تهدأ الثورات الشعبية العارمة، بمجرد الإطاحة بالنظام البيروقراطي الاستبدادي القديم، وقيام نظام بديل يقوم على الاستفراد بالحكم وتجاهل مبدأ الشراكة الحقيقية، لأنه لا يجوز لفئة حصلت على 20 أو 30 أو 40 في المئة عبر صناديق الاقتراع، أن تقصي الأغلبية الشعبية، حتى التي لم تذهب إلى صناديق الاقتراع.
ومن البديهي أيضاً أن ترفض الجماهير الشعبية، منهج الاصطدام، أو التغير بمنطق وآلية الصدمة، بمعنى الإطاحة مرة واحدة، بتراث المجتمع وثقافته وعاداته وتقاليده، وبالتالي بهويته التي تشكلت عبر عصور طويلة.
هذا ما يحصل في مصر وما يحصل في تونس، وما يتكرر في أكثر من بلد عربي من بلدان الربيع. في مصر لا تجرؤ أية جماعة أو قوة أو حزب على الادعاء بأنها صاحبة وقائدة ومفجرة الثورة، لا في 25 يناير ولا في 30 حزيران، ففي المرتين كان الشباب غير المحزب، لكن القادر على تنظيم نفسه ومخاطبة مصالح الجماهير، كان هؤلاء هم مفجرو الثورات وهم أدواتها، ووقودها أيضاً.
في المشهدين المصري والتونسي، لا تأخذ الأحزاب والحركات ما عدا الإسلامية، هويات فكرية محددة، ولك فقط أن تصنفها على أساس الميول، إنما يجمعها الرغبة في التغيير الديمقراطي، والانفتاح على حركة التاريخ.
إذا كانت هذه الاستنتاجات الأولية صحيحة، فإن الأحزاب القديمة التي نشأت في أحضان الأنظمة القديمة، كان عليها أن تشهد تغيرات بالقدر الذي يصلح لنقلها إلى عالم المستقبل، وهذا حصل جزئياً بالنسبة لبعضها، وسيحصل اضطرارياً بالنسبة لأخرى، وخصوصاً جماعات الإسلام السياسي.
لقد نشأت عشرات الأحزاب والجماعات الجديدة بعد ثورتي الياسمين في تونس و25 يناير في مصر، والظروف ترشح ولادة المزيد منها، لكن عمليات التغيير الكبرى في المجتمع وعلى المستوى السياسي، كما عمليات التغيير الصغرى في الأحزاب والحركات، لن تكون مجانية، أو بدون أثمان، وقد تكون أثمان باهظة.
لقد دفعت جماعة الإخوان في مصر، وسيؤثر ذلك على أخواتها في العديد من البلدان العربية وغير العربية، وما يزال عليها أن تدفع ثمن عدم استيعابها لدروس مرحلة التغيير، وهو ثمن من اللحم الحي للشعبين التونسي والمصري.
إن التأخر في اتخاذ القرار الصحيح، مثله تماماً مثل عدم اتخاذه، ومثل اتخاذ قرار خاطئ يقوم على المعاندة، والمكابرة، والمغامرة غير محسوبة العواقب. هذا ما يؤكده أحمد نجيب، رئيس الهيئة التأسيسية للحزب الجمهوري التونسي المعارض، الذي "عبر عن خشيته من أن تأتي خطوة استجابة حركة النهضة للحوار متأخرة".
وهذا ما وقع فعلاً في مصر، حيث تقبل جماعة الإخوان المسلمين الآن ما رفضته قبل وقوع الثورة الثانية في الثلاثين من حزيران، لكن القطار فاتهم، وأصبح عليهم القبول بما هو أقل كثيراً مما كان عليهم أن يقبلوا به، أما الثمن المدفوع بسبب خطأ عدم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، فإن الميدان يتحدث عنه.