خبر : منظومة البحث العلمي ..مصطفى الفقي

الثلاثاء 19 فبراير 2013 09:02 ص / بتوقيت القدس +2GMT
منظومة البحث العلمي ..مصطفى الفقي



أستأذن في الخروج من محنة الوطن وأزمته السياسية ومشكلاته الاقتصادية ولو لبضع دقائق أتطرق فيها لموضوع حيوي قد لا يبتعد كثيراً عن المشهد الذي نعيشه، أريد أن ألفت النظر إلى مأساة التعليم المصري وتدهوره الملحوظ في العقود الأخيرة على نحوٍ أدى إلى تراجع الدور الإقليمي المصري الذي اعتمد تاريخياً على منظومة تصدير “الثقافة” و”نشر التعليم” في العالمين العربي والإسلامي، والأخطر من ذلك هو ضياع “البحث العلمي” نتيجة لتراجع العملية التعليمية وانهيار الكثير من مؤسساتها .  فالتعليم هو “القماشة” التي يجري التفصيل منها “للبحث العلمي” و”الثقافة”، بل “لعنصر التشغيل” ومواجهة البطالة الصريحة أو المقنَّعة أيضاً، إذ إن هذه كلها نتائج طبيعية للنظام التعليمي المتهاوي الذي كنَّا نباهي به ونفاخر في القرنين الأخيرين، بل إنني أتذكر عندما هبطت مدينة “لندن” أول مرة العام 1971 أن الطبيب المصري كان يستكمل دراسته العليا هناك من دون امتحان معادلة اكتفاءً باختبارٍ سريع ب “اللغة الإنجليزية”، بينما كان الطبيب “الهندي” مجبراً في ذلك الوقت على الدخول في امتحان “معادلة علمية” من دون اختبار ب “اللغة الإنجليزية” .  هكذا كانت حالنا ذات يوم قبل أن نصل إلى هذا المستوى العاجز في نظام تعليمنا الجامعي وما دونه، أقول ذلك بمناسبة الدعوة التي تلقيتها من الدكتور أشرف شعلان رئيس المركز القومي للبحوث لإلقاء محاضرةٍ في مؤتمره السنوي، ولقد أسعدني أن وجدت المركز متماسكاً في وقت انهارت فيه بعض مؤسسات الدولة المصرية العريقة، ووجدت امتداداً ملموساً لإنجازات عصر عبد الناصر، حتى إن الوزيرة د . نادية زخاري قالت لي في اتصال هاتفي إنها ما طلبت من المركز القومي للبحوث القيام ببحث في موضوعٍ تطلبه  باعتبارها المسؤولة الأولى عن منظومة البحث العلمي، في البلاد  إلا ووجدت أن المركز قد بحث فيه من قبل ولديه دراسة جاهزة . ولقد علمت أن العالم الكبير صديقي الدكتور أحمد زويل قد زار هذا المركز منذ فترة واجتمع بإدارته وعلمائه وكنت أتمنى عليه أن يجعل منه نواةً لمشروعه الكبير في البحث العلمي بحيث يضم إلى جانبه مدينة البحوث العلمية في الإسكندرية (مبارك سابقاً) وأكاديمية البحث العلمي وهيئة الطاقة الذرية ومركز أبحاث الفضاء، وغيرها من المؤسسات المعنية بالبحث العلمي في مصر، في إطار منظومة واحدة بدلاً من الدخول في صراعٍ طويل حول أرض “جامعة النيل” وما تلاه من انتقادات تجاوزت الحد لتطاول قامة العالم الكبير الذي مضى على حصوله على جائزة “نوبل” قرابة أربعة عشر عاماً ومع ذلك لا نزال في المربع الأول، رغم أن لدينا ذلك العالم الكبير الذي كان يمكن أن يقود مدرسة عالمية للبحث العلمي المصري تدخل مباشرة إلى الجوهر وتعمل في المضمون من دون الاستغراق في الشكل واستهلاك الجهد بحثاً عن الأراضي والمباني ولدينا منها الكثير، إذ إن مشكلة البحث العلمي في مصر ليست في الإمكانات كما يزعم الكثيرون، ولكن في حسن إدارة مشروع قومي متكامل يحتوي علماء مصر في الخارج والداخل  وما أكثرهم  ليشد قاطرة هذا الوطن الجريح نحو آفاق أفضل بكثير مما هو عليه، وأود هنا أن أطرح الملاحظات الآتية:  أولاً: أعترف بأن الثلاثين عاماً الماضية وما قبلها تتحمل جزءاً كبيراً من تبعات ما نشهده اليوم من تراجع واضح في منظومة البحث العلمي فلقد أهملنا العقل المصري وقدرته الخلاقة على ارتياد ذلك المجال الذي نتفوق فيه بشكلٍ ملحوظ إذا خرجنا من حدود الوطن إلى مراكز علمية مبعثرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها، ولكننا نقف في الداخل عاجزين أمام عقبات الروتين والدرجات العلمية والوظائف الحكومية .  ثانياً: إننا بلد يصعب توصيف وضعه، إذ إن لدينا حشداً كبيراً من العلماء المعترف بهم دولياً ولعلي أتذكر كلمة قالها لي الدكتور “هانز بليكس” المدير العام الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية إن مصر مؤهلة قبل غيرها لأن تكون دولة نووية لأن لديها “قاعدة علمية” هائلة وحشداً من العلماء في كل المجالات، وذكّرني يومها بالعدد الكبير والمتميز للمفتشين المصريين لدى الوكالة في (فيينا)، والغريب في الأمر أننا بدأنا منذ عدة عقود نتحدث عن “مشروع الطاقة الذرية” في عصر عبد الناصر على يد وزير البحث العلمي حينذاك صلاح هدايت ثم تحدثنا عن مشروعٍ وطني للفضاء تحت مسمى الصاروخين “القاهر” و”الظافر”، كما يكفي أن نتذكر أننا كنّا نصنِّع الطائرة “الجمهورية” في مشروع مشترك مع الهند حيث كان العلماء الهنود مختصين ب”جسد الطائرة” والمصريون مختصين بالجزء الأكثر تعقيداً وهو صناعة “الموتور”، بما يلحق به من دراسات تتصل بالكهرباء والميكانيكا إلى هذا الحد كنّا ذات يوم . وفي مجال “الجيولوجيا” التي رحل رائدها المصري منذ أيام الدكتور رشدي سعيد كنَّا متقدمين للغاية في أبحاث “مياه النيل” و”ارتياد الصحراء” ومازال الدكتور فاروق الباز يحمل الراية في هذا المجال ومعه عدد كبير من العلماء المصريين الذين يتقدمون بمشروعات باهرة في هذا السياق .  ثالثاً: إن فرصتنا الوحيدة للخروج مما نحن فيه لن تكون إلا بالتركيز على “البحث العلمي” الذي لن يتقدم بدوره إلا باندفاع العملية التعليمية في “مصر” بصورة غير تقليدية تضعنا في مصاف الدول الكبرى، ونحن لا ننسى هنا عبارة مهاتير محمد صانع “المعجزة الماليزية” عندما قال في البداية (نحن بلد فقير فلابد أن ننفق كثيراً على التعليم) فالتعليم في النهاية هو البوابة العصرية نحو المستقبل بكل أبعاده وآفاقه .  أحمد الله أيها القارئ أنني خرجت بك من حشود “ميدان التحرير” واعتصامات “الاتحادية” والسجال السياسي بين أطراف اللعبة على المسرح المصري التي تبدو لي أقرب إلى “العبث” و”اللغو” منها إلى الرؤية الجادة والأفكار الواضحة والمشروعات المستنيرة لوطنٍ يحتاج إلى جهد أبنائه . . كل أبنائه .