خبر : مزاج الرئيس .. حسين حجازي

السبت 30 يونيو 2012 09:01 ص / بتوقيت القدس +2GMT
مزاج الرئيس .. حسين حجازي



نبوءة الرئيس المخلوع في زيارته الأخيرة للعلاج في ألمانيا، العام 2010، وقبيل أشهر من اندلاع الثورة التي أطاحت به، رد الرئيس المصري المخلوع والسجين اليوم، على سؤال طُرح عليه حول من يعتقد أنه سيكون رئيس مصر المقبل؟ كان السؤال قد صيغ على نحو ماكر، ولكن ما زلت أذكر جوابه في حينه والذي صاغه الرجل، كما لو أنه ومضة من الإلهام. قال الرجل وسط دهشة الجميع: "إن الله وحده يعلم من يكون رئيس مصر القادم". وربما كانت هذه هي الجملة الحدسية الوحيدة التي أصاب بها عين الحقيقة طوال عهده. إذ من كان يتخيل أن رجلاً كان الطاغية قد سجنه بعد يومين من انفجار الثورة، سوف يكون هو هذا الرئيس الذي سيجلس على كرسيه في القصر نفسه الذي طرد منه مبارك، ويرسل بهذا الأخير ونجليه إلى سجن مزرعة طره. قليل من رجال التاريخ من يخزيهم الله حتى في حياتهم، ويحولهم إلى عبرة. وقليلون منهم، يسجد هذا التاريخ أمام هاماتهم وعظمة مجدهم، بطولتهم ومأثرتهم. وآخرون يجعل منهم آية كفرعون، والبعض الآخر تكون رحمة الله بهم أن ينسى الناس ذكرهم، يطوي التاريخ ذكرهم. وقد كانت أمثولة مبارك أسوأ هذه النهايات، وأشدها عبرة، تذكر بقصص التاريخ الغابرة. كثيرون راودهم الفضول في صباح ذلك اليوم الذي دخل فيه الرئيس المصري الجديد، محمد مرسي قصر الرئيس المخلوع، تُرى بماذا شعر في هذه اللحظة الرئيس السجين؟ إن الله وحده قد علم من يكون هذا الرئيس الجديد، لكن ربما لم يدر حتى في أسوأ أحلامه، أن يكون هذا الرئيس هو الجديد بعينه. وكما تاريخ الشرق، سنن الحياة، وعوائد الأمم، مات الملك أو خلع لا فرق، عاش الملك الجديد. شيء جديد اسمه "الخادمة الأولى"من كان يعرف في ذلك الوقت عن زوجة الرئيس جمال عبد الناصر، السيدة المحترمة تحية عبد الناصر، غير اسمها ولقبها الوحيد "حرم الرئيس"، لكن فقط مع خليفته الأول الذي لم يكن يشبهه في أي شيء، وسامته، أو صوته، وجاذبيته. فسوف يعرف المصريون منذ الآن وعلى الطريقة الأميركية، التي كان معجباً بها السادات، أن لهم "سيدة أولى"، هي سيدة بيضاء، لا تشبه بشرتها، وجمالها بشرة زوجها السوداء، تفيض بالطاقة والحيوية هي السيدة جيهان السادات. كان من حظي رؤيتها عن قرب، حين كانت تأتي في أوقات متباعدة إلى كلية الآداب في جامعة القاهرة، لحضور دروس أستاذنا في النقد الأدبي، الدكتور عبد المنعم تليمة، الذي كان يسارياً، وكان من الجرأة أن يعتذر عن إلقاء محاضرته حين يعلم أن السيدة جيهان موجودة في القاعة، وانتهى الأمر أن عاقبه الرئيس الزوج بسجنه. حين تولى مبارك الرئاسة في العام 1981، جمع النخبة المصرية، التي اعتقل معظمها السادات، وقال لهم بحسب ما نقل عنه بعض الشهود: "لا تفتكروا أن السادات قتل بسبب قضية فلسطين، وهذا الكلام الفارغ، بل بسبب فشخرة مراته" أي بسبب فشخرة السيدة جيهان. ومنذ ذلك الحين سوف تنشب معركة نسائية حامية الوطيس ولكن صامتة بين السيدة الأولى السابقة والسيدة الأولى الجديدة. وبعد ثلاثين عاماً كان المصريون يسألون أين السيدة جيهان من السيدة سوزان ثابت؟ بعد أن تحولت مصر إلى أن تحكم من لدن العائلة، الثالوث الذي يضم الأب والأم والابن. هل خلع وسجن وعذب، ولحق به الخزي والعار أبد الدهر بسبب فشخرة امرأته؟ والابن الوريث. قالت السيدة نجلاء مرسي لا أريد أن تطلقوا علي لقب السيدة الأولى، لا يوجد شيء اسمه السيدة الأولى. يوجد شيء آخر اسمه "الخادمة الأولى". سوف يعجب المصريون، بالزوج الرئيس، والزوجة، فالأول في خطابه الأول، ذكر السائقين، وحتى سائقي التكتك كما لو أنه واحد من هؤلاء "الأسطوات" الذين غنى لهم فيما مضى سيد درويش، وزوجة الرئيس تعيد الاعتبار لطبقة واسعة في مصر من الخادمات، باعتبارها الخادمة الأولى. الذين يأتون بقوة المراس أو بقوة الحظ والصدفة قارن ميكافيلي في كتابه الشهير "الأمير"، بين من يصلون إلى السلطة بقوة المراس، ومن يصلون إليها بالمصادفة أو بقوة الحظ. ولاحظ أنه بينما الأولون يستطيعون الاحتفاظ بهذه السلطة طويلاً، فإن النوع الثاني غالباً ما يفقدها بالسهولة نفسها التي جاؤوا بها. فيما خلا ناصر، فإن السادات وبعده مبارك، جاء كلاهما بقوة الحظ. وقد انتهى الأول به الحال إلى أن يقتل، بينما كان يستعرض قواته، وجنوده أمام الملأ، فيما الثاني لم يصمد سوى 18 يوماً حتى أجبر على مغادرة قصره، وانتهى به المطاف إلى السجن. نعم، لقد تمكن مبارك من الاحتفاظ بالسلطة مدة ثلاثين عاماً، ولكن ما إن انفجرت أول ثورة حقيقية عليه، بعد أن استجمع المصريون قواهم للإطاحة به، فقد تبين للجميع هشاشة قوته، كما ضعف قدرته، وضعف مراسه، في احتواء الثورة والتغلب عليها. ولكن ميكافيلي فاته أن يلاحظ ـ وهو دقيق الملاحظة ـ أن هذا النوع من أمراء السلطة الذين يأتون إلى الرئاسة بقوة الحظ، غالباً ما ترافق سقوطهم لوثة تكلل تاريخهم وسقوطهم بالعار، ربما كنوع من عاقبة التاريخ، لتصحيح هذا الخطأ. خطاب الرئيس كان جمال عبد الناصر زعيماً كاريزمياً، يمتلك جاذبيةً وسحراً، وإلى ذلك كان خطيباً ويمتلك صوتاً، ربما لا يحاكيه سوى سحر وجمال أصوات تلك الكوكبة من المغنين الذين تغنوا باسمه، وكان صوته هو نفسه لا يقل عذوبة وحلاوة عنها. لقد كان عبد الناصر ذا طبع حسي وفناناً في ثوب بونابرت، وبطلاً قومياً تخطى صيته مصر ليبلغ العالم. وكان هو الخطيب الذي اجتمعت آذان العرب للمرة الأولى والأخيرة، لكلمته فقط. وكان السادات خليفته، خطيباً هو الآخر، بل وزعيماً، ولكن هذه المرة وبخلاف ناصر، على نحو مسرحي، لا يخلو من مسحة فكاهية وكوميدية، حتى تحولت بعض مقاطع ومفردات خطاباته إلى نكات في الشارع المصري، وموضع تندر لدى شعب مفتون بالفكاهة وخفة الظل. لكن مع مبارك نحن أمام الخطاب السردي، الذي لا أثر فيه لهذه المسحة من التراجيديا والجاذبية لناصر، أو التمثيلية المسرحية لدى السادات. خطاب على صورة وطبع الرجل، الذي أقام جداراً سميكاً وشاهقاً، بينه وبين شعبه. ديكتاتور فضل أن يدير مقاليد حكمه، من وراء أسوار قصره، ومن خلال حاشية مقلصة أشبه "بالشلة". خطاب دونما نبرة شعبوية، ودونما الاعتناء بالموصلات الحسية، كما في خطابات سلفيه ناصر والسادات. وهكذا ترانا بماذا نستدل على الرئيس الجديد الرابع، محمد مرسي في هذا السياق، من خطابه القصير الذي ألقاه بعد فوزه، لكي نتعرف إلى شخصيته، وهو ما يسمى علم فراسة الصوت. وحيث أولى العرب الأذن على العين، في هذا الصدد وهنا بعض الإشارات الدالة: إن هذا رجل يشعر بجدية بل رهبة المسؤولية، أو المنصب الذي يجد نفسه فيه، وهذا ليس واضحاً من نبرة الصوت، وإنما من التناص التاريخي الذي يحاول إقامته في لغة الخطاب، مع الموروث الإسلامي. لكنه رجل، في إيجازه شيء يشير إلى فطرة تميل إلى التحدي، والكبرياء، بل القوة، كرجل عملاني، يرتدي الحذاء البني، لا يهتم بالشكل، بل غالباً بالمحتوى، ولا يجد صعوبة في التعبير عن نفسه وعما يريد. ولذا قد لا يبدو مصادفة السؤال الذي يطرحه المصريون وربما العالم عن دلالة المظهر، والصوت، بعد انتخابه. والنقطة الثالثة، أن الميل الفطري الشعبوي، بل ولعلني أقول نوع من احتوائية استرضائية، هو ما يظهر ليس في انتقاء الكلمات البسيطة، أو مغازلة المدن، كما الفئات الشعبية، المهن الحرفية والسائقين وإنما في الكشف عن زعيم ذكي مهني إن شئتم، حدد مسبقاً من هم حلفاؤه، الطبيعيون في هذه المهمة. وأخيراً، هذا رجل بخلاف نبرته أثناء حملته الانتخابية يتحدث بهدوء، ويزن كلماته، كما بالمسطرة، وهذا يعني أنه رجل حذر، يدرس الخطوات التي يقدم عليها، قبل القيام بها. لقد كان ناصر عاطفياً حتى أنه يمكن تصوره وطنياً أكثر منه سياسياً. وكان السادات حاذقاً ومناوراً سياسياً ومسرحياً في ظهوره. وبينما كان مبارك جلفاً، وصلفاً غير محبوب، فإن هذا رجل مختلف عن الثلاثة. يبدو ببساطة واختصار، كقروي جاء من الريف، من الأطراف والهوامش، ليحكم مدينة عظيمة متسعة الأرجاء. ويدرك أنه في امتحان شاق وربما يحتاج المصريون إلى وقت للتعود على رطانته، فهو يبدو في المظهر والصوت كما لو أنه من خارج البطانة، لا يشبه الأسلاف السابقين الذين اعتاد عليهم المصريون. ولكنه في الواقع وكما يبدو أقل أيديولوجية، وأكثر وضوحاً كبراغماتي ثوري، هكذا من جامع الأزهر إلى ميدان التحرير، الشرعية الثورية، ثم المحكمة الدستورية، وجامعة القاهرة. هذا ليس أول رئيس يحكم مصر في تاريخها، جاء عبر الانتخابات الشرعية الدستورية، وإنما من ميدان التحرير أيضاً بالشرعية الثورية. وبالقياس على طريقته في تجاوز قطوع مأزق حلف اليمين، فإنه يبدو لنا سياسياً بامتياز، يعرف الطريق التي يسير عليها للوصول إلى الهدف.