خبر : الشيخ أحمد ياسين في ذكراه القعيدُ الذي أَنهضَ أُمَّةً..!!..أحمد يوسف

الخميس 22 مارس 2012 08:20 م / بتوقيت القدس +2GMT
الشيخ أحمد ياسين في ذكراه القعيدُ الذي أَنهضَ أُمَّةً..!!..أحمد يوسف



توطئة 22 مارس 2004، كنت أتنقل بسيارتي مع أحد الصحفيين اللبنانيين في العاصمة الأمريكية واشنطن، وفجأة رن جرس الهاتف، وإذ بصديق يتصل بي ليخبرني بأن الشيخ أحمد ياسين قد تمَّ اغتياله للتو على إثر خروجه من المسجد عقب انتهائه من أداء صلاة الصبح.. أخذني الصمتُّ للحظات، ثم التفتُّ لمن بجانبي، وقلت: الحمد لله الذي أكرمه بالشهادة، لقد كان مريضاً وعلى فراش الموت، ولكن المولى (عزَّ وجلَّ) اختاره شهيداً ليرتفع ذكره في العالمين، وليكون مع النبيين والصديقين وحَسن أولئك رفيقا. استأذنت صاحبي بعد أن أوصلته للفندق، وعدت أدراجي - على عجل – للبيت، حيث كانت محطات التلفزة الغربية والقنوات العالمية كالجزيرة والعربية تنقل تفاصيل خبر الاغتيال، وتتوسع في رصد ردود الفعل الفلسطينية والإسلامية على الجريمة الإسرائيلية النكراء. لم يكن وقع الأمر هيّناً علينا نحن تلامذة الشيخ، ولكننا نعلم أن الساحة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أصبحت بيئة معادية للإسلاميين ولحركة حماس، وأن هناك من يترصد بنا، وأن أية إشارات أو فعاليات توحي بالتعاطف والانتماء سيتم تفسيرها لغير صالح وجودنا، الذي كانت عيون الأجهزة الأمنية (FBI) تتعقبه وترقبه، وستكون مدخلاً لاعتقالنا والزج بنا داخل السجون الأمريكية. اكتفينا بمشاعر الحزن والأسى نتبادلها عقب كل صلاة في المسجد التابع للمركز الإسلامي بحي (Fall Church) ولاية فرجينيا،  وقد جمعتنا مجالس البيوت نتهامس فيها كذلك بمواجعنا ودموعنا على شهيد أمتنا.. في الحقيقة، كنت سعيداً لاستشهاده لأنه نال ما عمل عمره من أجله، وهو "أن يلقى الله شهيداً عالي الرأس، وأن ينال أعلى درجات الشهادة".. كان الشيخ (رحمه الله) قد تجاوز الستين وهو يعاني من عدة أمراض مزمنة، حاصرت ما تبقى من جسده وقيدته، وكنا ندعو الله (سبحانه وتعالى) أن يرزقه الشهادة في سبيله، ليختم مسيرته الجهادية بذكرى "الشهيد البطل"، وكان أن منَّ الله عليه بذلك.. كانت دموعنا تنساب حباً وكرامة لأغلى شهيد، لن أنسى ما دبجته يدي من مقالات حول مسيرته الجهادية والدعوية والتربوية، والذي كان بعضها موضوع غلاف لمجلة "الأمل" التي تصدرها رابطة الشباب المسلم العربي (MAYA) بعنوان: "الشيخ أحمد ياسين: القعيد الذي أحيا أمة"، وكذلك مجلة "فلسطين الغد" الصادرة عن الاتحاد الإسلامي لفلسطين (IAP) والتي كانت صور الشيخ (رحمه الله) حاضرة  - دائماً – على صفحاتها الأولى. لن أنسى تلك الأيام والليالي من عام 1989، بعد أن غادرت قطاع غزة عائداً للولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسة الدكتوراه، حيث أشغلت الكثير من وقتي هناك بإلقاء المحاضرات والدروس، لتوضيح حقيقة ما يجري على أرض فلسطين من حراك شعبي في مواجهة المحتل الإسرائيلي الغاصب، وهو ما أطلقت عليه وسائل الإعلام اسم "الانتفاضة" الفلسطينية، وكذلك بالعمل على تأليف ونشر كتابين للتعريف بالشيخ المؤسس لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبحركة حماس، كان الأول بعنوان: "الشيخ أحمد ياسين: الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي"، والثاني بعنوان: "حماس: حدثٌ عابر أم بديل دائم.؟". لم تكن المسيرة الحركية لجيلي من الشباب بالمشوار الهيّن والسعي المريح، بل كانت هناك محطات يجب المرور بها قبل الخوض في تفاصيل هذا الارتباط الوثيق بالحركة الإسلامية في منتصف العام 1968. المدخل: عبد الناصر والناصرية كنت في مطلع شبابي مولعاً بالرئيس عبد الناصر (رحمه الله)، ومسكوناً بالفكر القومي، لدرجة أنني كنت أحفظ ميثاق الثورة المصرية، وكنت في مادة التربية الوطنية للصف الأول الثانوي مرجعاً في الحفظ والتلاوة لكل ما أشكل على الطلاب من بنوده. في الحقيقة، كنت وشباب جيلي نعيش فلسطين وجداناً ونعمل من أجلها، ونحلم بالعودة القريبة إلى أرض الآباء والأجداد، ونتشوق – لحظة بلحظة - ليوم الزحف الموعود، والذي سوف تُقرع فيه طبول الحرب وتدق أجراس العودة.. كيف لا، ونحن الذين كنا نردد مع طابور كلِّ صباح نشيد: "عائدون.. عائدون، إننا لعائدون"، للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد. كنت في مرحلة الثانوية العامة أقرأ بلهفة كل ما يتعلق بالأدب العربي من شعر ونثر، والتهم كل ما تقع عليه يدي من تراثنا الأدبي ومن القصص والروايات العالمية، وكنت أجد متعة - تأخذ كلَّ وقتي - وأنا أقرأ للأديب الفرنسي فيكتور هيجو، والإنجليزي تشارلز ديكنز، والأمريكي أرنست همنجوى، والروسي ليو تولستوي.. كنت أجد - كذلك - قمة الإمتاع في مطالعة كتب التاريخ، وخاصة السّير والملاحم التي تتحدث عن بطولات الرجال كالزير سالم وأبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد، وكذلك الروايات التي تتناول التاريخ الإسلامي والتراث الإنساني، وأيضا تلك السردّيات المطولة التي تحكي قصة صعود وهبوط الممالك والحضارات. كنا شبابًا في الثانوية، وانخرطنا في العمل الوطني الطلابي بعد نكسة حزيران 1967، حيث أخذنا نعمل بهمة على توزيع المنشورات وتحريك التظاهرات، وكان حسّنا الوطني في كامل اليقظة والحذر.. حاولنا - في البداية - القيام ببعض أعمال التدريب والمقاومة داخل خلايا الحركة الوطنية، ولكنَّ الفراغ السياسي كان قاتلاً لغياب التوجيه والتعبئة.. كانت حالة الخيبة والإحباط قد استبدت بنا واستحوذت على مشاعرنا.. وكنا نعيش حالة حقيقية من الضياع والتشرد، حيث تلاحقنا الأسئلة: هل حقيقة أننا هُزمنا؟! هل ضاعت أحلامنا في التحرير والعودة؟! وهل فعلاً ضاع الرجا فين؟؟لم يُصدّق أحدٌ منا ذلك.. هل حقاً أن كل هذه الجيوش الجرارة لسبع دولٍ عربية والتي دخلت الحرب أو تداعت لها عجزت عن هزيمة هؤلاء اليهود شُذّاذ الآفاق؛ كما كانوا يصفون الإسرائيليين لنا في المدارس؟ كانت الأسئلة تتدافع دائماً على شكل تمتمات مع كل لحظة تأمل ونظر.. ولكننا لم نجد إجابات لكل ما نطرحه من تساؤلات؛ مشروعة أو غير مشروعة.  لم أكن أُصلي آنذاك، ولم أشاهد أحدًا من أسرتي - في ذلك الوقت - يصلي إلا جدتي، التي تجاوزت الستين من عمرها.. كانت الصلاة في ذلك الوقت يقتصر أداؤها على العجزة وكبار السن.. أما الشباب أمثالي فلم يكن الإيمان – بعد – قد سكن في قلوبهم، وكان الدين بعيدًا عن مربع حياتهم وأنماط سلوكهم؛ فراغٌ كُنا نمرح فيه بلا هداية، ونقتله بلعب الكرة ومشاغبات الشوارع، والقوي منا سواء بجسمه أو عائلته يعمل من نفسه "قبضاي" الحارة. سنة كاملة - بعد هزيمة 67 - عشتها حائرًا، تطاردني فيها الأسئلة، وتلاحقني علامات الاستفهام وخلوات التأمل والتفكير.. كانت الهزيمة نكسةً شلّت الأمة العربية والإسلامية، وهزت كياني وأربكته، وأجهضت كل قناعاتي بالناصرية وما أنتجته من ثقافة وطنية. الالتزام الإسلامي: صحوة ما بعد الصدمة بدأت الغشاوة تنجاب شيئًا فشيئًا عن عيوني، حيث بدأنا نسمع في أحاديث المجالس وحوارات الكبار أن ما وقع كان عقاباً ربانياً للمظالم التي اقترفها نظام عبد الناصر بحق الإخوان المسلمين، حيث جاء القصاص - سريعاً - على إعدام المفكر الإسلامي سيد قطب وستة من قيادات جماعة الإخوان المسلمين عام 1966، وكان أيضاً جزاءً لابتعادنا عن المساجد وما ارتكبناه من المعاصي والذنوب، حيث كانت السيئات في حياتنا تراكم السيئات، ولا يعرف الشباب طريقًا لجلب الحسنات. كان يسكن إلى جوار بيتنا في حي الشابورة عدد من مشايخ الإخوان أو "الإخونجية"، كما كان يُطلق عليهم في الحارة بغرض الاستهزاء وتشويه السمعة، وكانوا يتجمعون للصلاة أمام دكان (أبو حطب) في أوقات المغرب والعشاء.. قبل النكسة عام 1967، كنت أعرف أنهم كانوا يتعرضون لملاحقة رجال المخابرات (المباحث)، وأنهم كانوا يعدُّون عليهم الأنفاس، أما بعد مجيء الاحتلال فقد أصبحوا طلقاء... كان هؤلاء الإخوان أُناساً في غاية الطيبة والأخلاق الكريمة، وفيهم من صفات المروءة والكرم والمودة وحسن الجوار ما يفتقر إليه غيرهم حتى من الأخيار، وكنت أتساءل - بيني وبين نفسي - لماذا كانت كل هذه القسوة عليهم.؟ ولما يا ترى كان التصنت الفاضح على بيوتهم والمراقبة اللصيقة لهم؟ فنحن – كجيران - لم نشهد عليهم إلا كل خير وأمان.؟! ويأتيني الجواب ممن يسمع همسي: لأنهم من جماعة الإخوان المسلمين؛ لأنهم يقرؤون لسيد قطب والأستاذ محمد قطب ويسيرون على نهج الشيخ حسن البنا وخطى الشيخ محمد الغزالي.!! لفتت هذه الأسماء سمعي وبصري، وأخذت أفتش عنها.. حصلت على بعض أجزاء من تفسير الأستاذ الأديب سيد قطب "في ظلال القرآن"، وكتابه الشهير"معالم في الطريق" وكذلك كتاب "التصوير الفني في القرآن"، ثم جلبت بعض كتب المفكر الإسلامي محمد قطب: "التطور والثبات"، و"جاهلية القرن العشرين"...الخ، وقد شدني إلى الشهيد سيد قطب (رحمه الله) لغته الأدبية الغنية بأناقتها، حيث لم أكن أفهم – آنذاك – أبعاد رؤيته عن المجتمع والدولة وفكره الحركي ومنطقاته البنيوية، ولكنني كنت أتذوق بمتعة مفرداته اللغوية والصور البيانية الساحرة التي كانت ترسمها كلماته.. وكلما انتهيت من قراءة كتاب أجدني مشدودًا أكثر لجارنا الحاج محمود محسن (أمدَّ الله في عمره)، وهو من قدماء الإخوان المسلمين وأخلصهم.. كان الرجل تاجراً ميسور الحال نسبيًا، وصاحب فضلٍ على الجميع، ويده في الخير والإنفاق ممدودة بسخاء، اقتربت منه أكثر، وأصبح الرجل مصدرنا في الحصول على كل ما نريد من كتب الإخوان المسلمين.. وبدأنا نحن الشباب - الملتزمين إسلامياً - في المدرسة نتداول بعض ما نقرأ ونتحاور فيه. بعد أن امتلأت أوداجي ثقافة دينية وفكراً إسلامياً، وأصبح المسجد ركناً يتجمع فيه بعض أصحابي، سعيت لتعلم الصلاة.. في البداية، مارستها بعيداً عن أعين الناس، حيث كنت ألجأ إلى إحدى البيارات بأطراف المخيم، وأقرأ من كتاب "تعليم الصلاة"، محاكياً ما كنت أشاهده من صور وحركات، ثم بدأت أقرأ القرآن، وتجرأت – بعد اتقاني للصلاة – في الذهاب إلى المسجد.. من هناك، من جانب المحراب تقاربت أكثر مع جارنا الحاج محمود (أبو محمد) وبعض زملاء الدراسة الذين مروا بنفس تجربتي. وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى في إحدى الأيام من عام 1968 ظهر في بلدتنا رجل يتحرك على قدميه بصعوبة بالغة، وجلسنا يوم الجمعة في بهو مسجد "الهدى" نسمع له، كان مشلولاً ولكنَّ صوته وهمته وروح دعابته لا تُعبّر عن حال رجلٍ عاجز، بل عن شخصٍ واثق الخطوة يمشي ملكًا. بعد الصلاة في المسجد، دعانا جارنا العزيز الحاج محمود للجلوس - في بيته - مع هذا الرجل الغامض؛ الشيخ أحمد ياسين، الذي ما التقينا به واستمعنا له إلا ازددنا تعلقًا به، وغدونا ننتظر قدومه - بعد ذلك - بكل حماسة وشوق. على مدار سنة كاملة، ونحن نلتقي معه في "أسرة مفتوحة" كما أعتاد الأخوة على تسميتها، إذ لم نكن نعلم - حينذاك - بأن هناك تنظيماً للإخوان المسلمين في قطاع غزة.. وبعد أن تكاملت مداركنا الفكرية والحركية والأمنية داخل الأسرة المفتوحة، كانت البيعة للجماعة والالتحاق بالتنظيم.. كنا بمثابة الرعيل الأول من جيل الشباب، وكنا "أول قطفة تنظيمية" في مدينة رفح وربما على مستوى القطاع، وأتذكر من الأسماء التي شكلت الطليعة الأولى لذلك الجيل كل من الأخوة: د. موسى أبو مرزوق، ود. فتحي الشقاقي (رحمه الله)، والأستاذ إبراهيم معمر (رحمه الله)، والقاضي إبراهيم أبو مر، والمهندس توفيق أبو عيادة، والأستاذ جمال أبو هاشم، والمهندس عيسى النشار، والدكتور فؤاد النحال، والأستاذ إبراهيم المشوخي، والأستاذ عيسى الأسمر، والأخ إبراهيم علوان، والأستاذ سعد المغاري... وآخرون لم يكتب الله لهم الاستمرار معنا في المسيرة، وانخرطوا لاحقًا في حركة فتح، وصار لبعضهم موقع وقرار مثل: العميد حمودة جروان (رحمه الله) والمستشار خميس أبو ندا.كنا نخرج لصلاة الصبح ونحرص على صلاة المغرب والعشاء في مسجد الهدى.. تعودنا على لقاء الشيخ أحمد ياسين كل أسبوعين تقريبًا في بيت جارنا الحاج محمود، والذي كان جواداً كريماً لم يبخل يوماً عن تقديم وجبة غداء دسمة احتفاءً بضيفه الشيخ ومريديه من الشباب. كانت لقاءات الشيخ ودروسه وخطبه بالمساجد هي الزاد التربوي لنا، ثم بدأنا نقرأ بتعمق في الكتب الدينية حتى استوت مداركنا الفكرية على ساقيها، وأصبح بعضنا فيما بعد ناشطاً في مجال الفكر والدعوة والعمل الجهادي  . الشيخ أحمد ياسين: عنوان الجهاد والشهادة من خلال سنوات التزامي بالحركة الإسلامية، والتي قاربت على عقدها الرابع، تعلمت من أحداثها ووقائعها الكثير، واستقيت منها دروسًا وعبرًا لا تُحصى، كما أن زخم التجربة التي مررت بها، والتي حملتني سنواتها الطويلة إلى بلاد وأقطار متباعدة، كان لكل محطة منها بصمةً على حياتي، سواءً أكانت هذه البصمة أخلاقية أو سياسية أو إنسانية أو حركية.. ولكنَّ مجموعها شكّل تكاملاً للمعاني والقيم التي أسهمت في تشكيل شخصيتي، فحصاد التجربة لم يكن هشيماً تذروه الرياح، بل وقفات وحكمة وإمعان نظر لكل ما يدور حولي من أحداث تستدعي - في أغلب الأحيان - إلجام نزوات العواطف ببصيرة العقل والنظر، والتريث حتى لا تبدو الخطوات قفزًا في الهواء، أو مراوحة في المكان، وإعطاء مساحة للزمن حتى تنضج عتمات الليل، وتصبح العين قادرة على تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. لقد تعلمت في شبابي من أستاذي شهيد الأمة الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) الكثير من الشيم والمعاني والمُثل كالصبر والمصابرة، وبسط اليد وابتسامة الوجه واستيعاب الآخر.. تلك الخصال شكلت رصيداً لي خلال مسيرتي الدعوية والجهادية والفكرية التي بدأت أميالها الأولى بعد عام واحدٍ من النكسة في مخيم الشبورة برفح، ثم ارتحلت ظلالها معي إلى الضفة الغربية وتركيا ومصر عبر مسيرة تعليمية امتدت لسبع سنوات، سافرت بعدها إلى الإمارات ومنها إلى أمريكا حيث الدراسة والعمل، ثم في مهمة إنسانية وإعلامية إلى أفغانستان، حيث كان اللقاء بالكثير من قيادات الجهاد هناك من العرب والأفغان: كقلب الدين حكمتيار، والشيخ عبد رب الرسول سياف، والشيخ أحمد العسال (رحمه الله)، والشيخ عبد الله عزام (رحمه الله) والذي عرفته على مدى عشرة أعوام مجاهداً ربانياً، له وجه صحابي جليل، وكان كلما رأيته تذكرت - دائماً - شيخي وأستاذي الشهيد أحمد ياسين؛ كتلة من الهمة والنشاط والروحانية العالية، ثم كانت الجزائر المحطة الأخيرة في رحلة الغربة عن الوطن، حيث تسنى لي التعايش مع قياداتها في المهجر والعيش مع أهلها وفي ربوعها بعد انتهاء أزمتها الدموية ومحنتها الوطنية، وقد التقيت هناك من رجالاتها من كان يذكرني بشيخي الشهيد أحمد ياسين، ومن كان يطلب منيِّ من شبابها أن أحدثه عن جهاد الشيخ أحمد ياسين. لقد طافت قدماي بلاد العرب والعجم، ولكن الشخصية النموذج التي استحوذت ملامحها وحراكها على منطقنا في الفعل والخطاب هي ذلك الشيخ القعيد الذي كان بحق "الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي". لن أنسى تلك الكلمات التي قالها لي مطلع عام 1988، حيث كنت أنقل له رغبة إخوانه في تنظيم بلاد الشام وجهاز فلسطين، بضرورة العمل على تهدئة الأوضاع خشية أن تفلت الأمور ويصعب التحكم بها، حيث إن تداعيات الانتفاضة إذا استمرت في التصعيد قد تبلغ كلفة مادية يصعب توفيرها لضعف إمكانيات التنظيم وتوجسات الأنظمة بالمنطقة.. بعد وقفة تأمل حملت نظراتها - مع قسمات وجهه - علامات الاستغراب والاستنكار، قال لي: "يا أخ أحمد.. يمكنك أن تقول لإخوانك بأن هذا أمراً قد اتخذنا قرارنا فيه، ولا رجعة عنه، ولهم إن شاءوا أن يمنحونا الدعم بالقدر الذي يستطيعون، ونحن من جهتنا لن نشق عليهم، ولن نكلفهم ما هو فوق طاقتهم.. هذا ما نَأمله منهم ونرجوه.. وإذا آثروا غير ذلك، فلنا عليهم حق الدعاء لنا بظهر الغيب. إن هذه الانتفاضة سوف تمضي – بإذن الله - حتى تبلغ غايتها، ولقد عقدنا العزم على ذلك". شعرت بالحرج الشديد وحاولت البحث عن تفسير يخفف من وطء الرسالة، ولكن دون جدوى.وكان للشيخ ما أراد، واستمرت الانتفاضة تعمل على استنهاض الحالة الفلسطينية وإحياء ثقافة الجهاد والمقاومة، حتى كانت "كتائب القسّام" وضرباتها التي جعلت الاحتلال يعيد حسابات بقائه على أرض قطاع غزة. مضى شيخنا المجاهد شهيداً إلى ربه في فجر يوم الثاني والعشرين من عام 2004، وفي صيف 2005 حمل الاحتلال عصاه ورحل عن أرض العزة. لقد أدى الشيخ الأمانة، فكان وطناً في رجل، أحبه الجميع؛ أحبته فتح كما أحبته حماس فكان رمزاً لكل فلسطين، احتضنه كل من عرفه من قيادات العمل الوطني والإسلامي وطبع الشهيد ياسر عرفات (رحمه الله) قبلة على جبينه، لتحمل للأجيال رسالة واحدة: "أبو عمار علمنا.. أحمد ياسين علمنا.. نموت وتحيا فلسطين". ختاماً.. يمكننا - نحن المريدين - القول بفخر أنه كان لنا شيخاً لم يؤت سعة في العلم والمال، ولا بسطة في الجسم والحال، كان مشلولاً معدماً يحاصره الفقر والصقيع والعيال، ولكنه كان عظيماً في إيمانه وأحاديث لسانه، أيقظ أمة من سباتها، وبنى حركة إسلامية تخطى محيط أعضائها وأنصارها والداعين لها - في بضعة عقود - أسوار الوطن، لتحتضن حواضرنا العربية والإسلامية نشاطات دعاتها ومفكريها، وكان - بحق - مدرسة لبناء الرجال وهندسة الفكر والرؤية، كان سابقاً لزمانه في اجتهاداته ومبادراته وعلاقاته الإنسانية مع الناس. رحم الله شيخنا المجاهد الشهيد أحمد ياسين، وأسكنه فسيح جناته، وجعلنا على دربه من الشاهدين.