خبر : التهدئة الجديدة: متى نستخلص العِبَرْ؟ .. بقلم: د. عبد المجيد سويلم

الخميس 15 مارس 2012 09:59 ص / بتوقيت القدس +2GMT
التهدئة الجديدة: متى نستخلص العِبَرْ؟ .. بقلم: د. عبد المجيد سويلم



مرّة أخرى وجديدة تنجح مصر في التوصل إلى تهدئة، ويفسرها كل طرف على أنها محطة مفصلية جديدة من النجاح وانتصار جديد في سلسلة الانتصارات "المتتالية". للعدوان الأخير على غزة تفسيرات كثيرة، لكن الأهم والجديد فيها هو هذه "السعادة" الغامرة التي بدت عليها وسائل الإعلام الإسرائيلية المحسوبة على المؤسسة الرسمية، وحتى نصف المحسوبة عليها. سرُّ هذه السعادة كما بات واضحاً، هو "النجاح" الذي تحقق إثر تشغيل ما تم انجازه حتى الآن في نظام القبّة الحديدية. المعلومات التي أبرزتها وسائل الإعلام المشار إليها تفيد أن هذا النظام قد استطاع إسقاط أو حرف أو اعتراض أو ربما تدمير الجزء الأكبر من الصواريخ "الكبيرة" التي أُطلِقَت من القطاع، في حين عجز هذا النظام عن التصدي للصواريخ البدائية المحلية الصنع التي تفتقد على ما يبدو لأية مواصفات تكنولوجية قابلة للاختراق أو الملاحقة أو حتى الاستشعار بها لمواجهتها. الشيء المريب إلى أعلى درجات الريبة هو أن تشغيل هذا النظام قد جاء في ظل التصعيد الإسرائيلي الذي كان يستهدف على ما يبدو كثافة معينة من الصواريخ الآتية من قطاع غزة لكي يصار إلى التأكد من فعاليّة النظام. إذا صحّ هذا التقييم (وأغلب الظن أنه صحيح)، فإن إسرائيل تكون قد استدرجتنا إلى هذه الدائرة بصورة تنمّ عن درجات غير مسبوقة من التفكير العنصري. إسرائيل عبرَ هذا السلوك المشين أخلاقياً تكون قد استخدمتنا كحقل تجارب للتأكد من فعالية أنظمتها، وتكون قد تجاوزت كل الحدود في الاستهتار بأرواح أهلنا وفي اتخاذ قرارات واعية بالقتل وإعدام الناس في شوارع القطاع. إذاً، في العرف الإسرائيلي أصبح جائزاً ومتاحاً القتل، بما فيه القتل الجماعي، لأسباب مخبرية أو اختيارية، وأصبح جائزاً ومتاحاً تحويل هذا القتل إلى قضية سياسية وأمنية كبيرة، بما فيها إنزال الإسرائيليين إلى الملاجئ "خوفاً" من الصواريخ التي تحتاج إسرائيل لانهمارها على المناطق الجنوبية لاختبار نظام القبة الحديدية. في حين تتحدث إسرائيل عن أنّ هذه التهدئة قد "حققت" لها أعلى درجة من الردع بالمقارنة مع سلسلة التهدئات السابقة، وأن هذه التهدئة هي محطة هامة لاختبار مدى "التزام" حركة حماس بضبط الأوضاع في قطاع غزة، تتحدث الفصائل الفاعلة في قصفة الصواريخ وخصوصاً حركة الجهاد الإسلامي، عن ردعٍ من نوع جديد عائد إلى قدرة هذه الفصائل على توسيع دائرة القصف وتعميق مدايات القصف إلى مناطق جديدة لم تكن تصنف سابقاً في دائرة النار. هذه التهدئة الجديدة إضافة إلى موضوع "حقل التجارب"، تنطوي على معان جديدة. فهذه التهدئة تأتي في ظل عجز شامل في قدرة المجتمع الدولي على تحريك أي ساكن يُذكَر في مواجهة العربدة الإسرائيلية وفي مواجهة الحديث العلني في إسرائيل عن حروب هنا وهناك من شأنها إشعال المنطقة برمتها. "الرباعية" في هذا الإطار تبدو وكأنها أغلقت ملفاتها وحزمت حقائبها لسفر بلا عودة أو لكأنها باتت تعقد اجتماعاتها للإعلان عن وجودها ليس إلاّ. كما تأتي هذه التهدئة في ظل رغبة جامحة من قبل حركة حماس للتوصل إليها مهما كان الثمن في ظل الإحراج الشديد الذي تعرضت له الحركة جراء موقفها الميداني المحايد وفي ظل خوفها على "سلطتها" في القطاع من استمرار التصعيد وخروجه عن دائرة السيطرة. أحد أهم استهدافات إسرائيل من التصعيد كان اختبار حركة حماس ميدانياً (فإسرائيل لا يهمها على الإطلاق الخطاب الإعلامي لحركة حماس) واختبار مدى التزام حركة حماس ومدى قدرتها على "ضبط" الوضع عند درجات عالية من التصعيد، وذلك حتى يتسنى لإسرائيل المراهنة إما على انقسام في الشارع الفصائلي في القطاع أو إعادة ربط "مشروع المقاومة" الذي يتمثل من حيث الجوهر بإطلاق الصواريخ من قطاع غزة ببقاء سيطرة حركة حماس عليه. أي أن هذا التصعيد من جهة والتهدئة من جهة أخرى، أصبح بالنسبة لإسرائيل المعادلة التي تساوي أو توازي معادلة المقاومة والسلطة من وفي قطاع غزة. ومن حيث الجوهر، فإن إسرائيل كما يتسرب في الصحافة الإسرائيلية، أصبحت تربط ما بين التوقف عن الاغتيالات وما بين التخطيط لشن الهجمات. وعلى الرغم من أن الخطاب الإعلامي الفلسطيني لا يأتي على هذه المعطيات الجديدة إلاّ أن الواقع يؤكدها. فقد تم "اصطياد" مجموعة من القادة والكوادر الميدانية المؤثرة وتمت ملاحقة عدد آخر في إطار العدوان الأخير، وتم الحديث عن وقف الاغتيالات مقابل وقف إطلاق الصواريخ، سواء بصورة عرضية أو جوهرية. تم الحديث عن الاغتيالات كموضوع قائم بذاته في إطار "المبادرة" المصرية الجديدة للتوصل إلى التهدئة. وتأتي هذه التهدئة في توقيت خاص من ناحية البعد الإقليمي. فإسرائيل تأكدت من الموقف المصري بأنه ما زال في الدائرة العامة للالتزام بالهدوء والاستقرار والتهدئة، وإسرائيل تأكدت من أن إيران ليست اللاعب الرئيسي في قطاع غزة، وأن قدرة إيران على "تحريك" القطاع ليست كلية، وهو الأمر الذي سيجعل من اختبار علاقة حركة حماس بإيران على جدول الأعمال الدائم لإسرائيل في الشهور القليلة القادمة. وبمعنى آخر، فإن إسرائيل استهدفت التمهيد من خلال هذا العدوان "لضمان" الحد المطلوب من الهدوء على الجهة الجنوبية إذا ما "اضطرت" إسرائيل لتوجيه ضربة لبعض المناطق الإيرانية. كما أن الأهمية القصوى لهذه التهدئة تأتي في التوجه الإسرائيلي المعلن لمنع المصالحة الفلسطينية، ليس من موقع الضغط على القيادة الفلسطينية (كما كان يعتقد بعض عباقرة التحليل السياسي لدينا)، وإنما من موقع الربط ما بين توجه حركة حماس للمصالحة وما بين بقائها في السلطة في قطاع غزة.  أي أن إسرائيل باتت تربط بصورة مباشرة مصالح الجناح الرفضوي في حركة حماس للمصالحة وما بين استعداد هذا الجناح لتوفير الهدوء المطلوب على الجهة الجنوبية لضمان البقاء في السلطة، وهو الأمر الذي سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى "الصدام" ما بين "الجهاد" وبعض الفصائل المسلحة في غزة مع حركة حماس. إذاً هو عدوان وتصعيد يهدف اصطياد عشرة عصافير بحجر واحد، وهو اختبار لمدى تمسك حركة حماس بالسلطة في غزة، واختبار "لصمودها" في وجه الضغوط الإيرانية، وهو اختبار لمدى صحة مراهنة إسرائيل على استمرار الانقسام من باب هذا التمسك بالذات، وهو اختبار لمدى قدرة هذه الفصائل على الانسجام مع طموحات ورغبات ومصالح حركة حماس، وفيما إذا كان هذا الانسجام ما زال قائماً على الأرض.  إذاً، العدوان في أبعاده المتشعبة لا يعود بنا إلى سؤال المقاومة من عدمها، وإنما يعيدنا على ما يبدو إلى سؤال الوحدة والعقبات التي تقف في طريقها، وإلى سؤال المصالح الوطنية والمصالح الفئوية، وإلى سؤال التحول من ألعوبة ثانوية إلى لاعب رئيسي، وهذه هي العبرة الأهم من العدوان الأخير والتهدئة الأخيرة.